ملحمة جلجامش والفكر الديني - الفلسفي الشرقي القديم
محاضرة قدمت لطلاب الدراسات العليا بقسم التاريخ - كلية الآداب
النصوص الشعرية للملحمة المستخدمة في هذه الدراسة مأخوذة عن الترجمة الشعرية التى قام بها الأستاذ جرجس ناصيف.
ملحمة جلجامش عبارة عن نص شعري طويل مكتوب باللغة الأكادية البابلية في اثني عشر لوحاً فخارياً. وجدت الألواح في مكتبة آشور بانيبال تحت أنقاض القصر الملكي بعاصمة آشور نينوي. نص نينوي هو سليل نص أقدم منه بكثير دوّن خلال العصر البابلي القديم، واستلهم كاتبه عدداً من النصوص الأدبية والأسطورية السومرية التى تدور حول جلجامش، وبعض الأخبار المتفرقة المتداولة عنه، وحاك من ذلك نصه الذى نسميه اليوم بـ "النص البابلي القديم".
تجري أحداث الملحمة وفق الملخص الآتي:
كان جلجامش ابناً للإلهة "ننسون" حملت به من ملك مدينة "أوروك" المدعو "لوجال بندا"، فجاء ثلثه إنسان وثلثاه إله:
في الثلث إنسان وثلـثـاه إلــه لا نــظيـــر
في الهيئـة المثلى لـه عبر المدى عبر الدهور
والرأس مرفوع كما الـثور العتي، هو القـدير[1]
حكم مدينة "أوروك" وهو لازال في مقتبل العمر، فطغى وبغى على أهلها حتى ضاقت بهم السبل، فحملوا شكواهم إلى مجمع الآلهة يطلبون منها العون على رد مليكهم إلى جادة الصواب:
"آرورو"[2] قد خـلقت لهم ثـوراً يباشر ما يريـد
وســـلاحه لا يرتـديـه بـبأســه بـطل مـريـد
وعلى ضجيج طبـوله يسـتيقظ الشـعب العبيد
"جلجامش لا يترك ابـناً للأب الراعي الرحيم
والـظلم مـقترف عـلى مـر الليــالي مـا يــقيم
لـكنـًه الرّاعي، لـ "أوروك الـممنـعة، الوســيم
بل إنَه الـراعي القـوي وفي سـجايـاه الحكــيم
يـطأ البنـات فلا تـظل عـفيـفـة بـكـر حـصـان
وينـال مـن كـل الـعـرائس مـا يشـاء وبالسـنان"[3]
أصـغى لشـكوى الـظلم من أهل الـمرارة والهوان
أهـل الســـماء فكـلمـوا رب المـــدينــة باتــزان
استمع الآلهة للشكوى وارتأوا خلق ندٍ لجلجامش يعادله قوة ليدخل الاثنان في تنافس دائم يلهي جلجامش عن رعيته، وعهدوا بهذه المهمة إلى الإلهة الخالق "آرورو"، المعروفة في أساطير بلاد الرافدين بأنها خالقة الجنس البشري:
ســمع الإلــه[4] شــكاتهم متألميـن مـكـرريـن
فدعوا جميعاً قدس "آرورو" العظيمة قائلين
"جلجامش" هذا خلقت، فهل خلقت له عديلا؟
في ضجة القلب الجريء، وهل جعلت لـه مثيلا؟
كي يشـغلا، يتنافسا و"أوروك" تخلو، لا ذليلا"
فقامت "آرورو" بخلق "إنكيدو" من قبضة طين رمتها في الفلاة:
سـمعت "آرورو" قولهم وتمثلت رسـم الإلـه
"آنو" العـظيم وغاص كـفاهـا لطهـر بالمـياه
وبكفها قـد جـمعت طيناً وألـقت في الـفلاة
فإذا بانكيدو العظيم يعيش في جوف الخلاء
من نسل "نانورتا" [5] إله الحرب أو رب الهواء
متوحش ولباسه من صنع "ســــامـوقــــان"[6]
نشأ إنكيدو مع الغزلان في البراري، يطوف الفلاة مع القطعان كواحد منها:
يرعى الحشيش كأنه بعض من الغزلان:
يرد المناهل ظامئاً يـرعى مع القـطعـان
ومـع البهيمة قلبـه إذ يرتـوي نشــوان
وفي أحد الأيام رآه صياد فتى وهرع إلى أبيه يحدثه بشأنه، فاقترح عليه الأب أن ينقل الخبر إلى ملك البلاد.
"ابني" في "أوروك" جلجامش يقيم فلا يريم
ما بزه بطل عنيد، لا ولا رجل حكيم
رجل قوي عزمه كشهاب "آنو" الثاقب
فاذهب ويمم وجهه وأخبره – تلك رغائبي –
مضى الصياد فمثل في حضرة الملك وقص عليه خبر الرجل الوحش، فاهتم جلجامش بالأمر ورغب في إحضار ذلك المخلوق الغريب إليه. أمر كاهنة حب من معبد "عشتار" أن تذهب مع الفتى إلى البرية وتحاول استمالة ذلك الرجل ثم تأتي به إليه بعد أن يفئ إلى أحضانها ويأمن إليها:
"جلجامش"- قال – العظيم الراجح العقل الملك
"يا أيها الصياد يا هذا الفتى خذها معك
من كاهنات الحب ت**ر بالأنوثة ما امتلك
تكمن المرأة والفتى عند النبع الذى يرده إنكيدو للشرب مع القطعان. وفي نهاية ثلاثة أيام من الانتظار يظهر إنكيدو:
"هو ذا فتاتي- حرري الثديين تحريراً جميلا
ودعيه يقطف من ثمارهما ولا تبقي خجولا
وخذي إليك الدفء من رجل تتشهاه النساء
وإذا رآك فشهوة حري تلظى في الدماء
أرمي الثياب يمل عليك فعلميه
كيف النساء تنال تغدو في يديه
وإذا فعلت تفرقت عنه الطرائد إذ رأت
ما كنت أنت تمارسين لديه" [7]
فتبرز إليه المرأة وتكشف له عن مفاتنها. ينسى إنكيدو صحبه من ذوات الظلف والحافر ويقترب من المرأة يلامسها وتلامسه، ثم يفئ إلى أحضانها ثلاثة أيام. وعندما يحاول القيام ليلحق بربعه يجد أن ساقيه لم تعودا قويتين وأنه غير قادر على الركض كالسابق:
ترك المليحة عائداً كي ما ينال رفاقه
فقد القوى
وأمامه مرت أراد لحاقها فتعرقلا
خارت قواه وبعدما ولت يخال مكبلا
متعثراً في جريه، ما العود في ما أقبلا
فيرجع إنكيدو إلى المرأة التى تبدأ تحدثه عن جلجامش، وعن مدينة أوروك وتقنعه بأنه لم يخلق لحياة البراري بل لحياة القصور، فيتوق إنكيدو للقاء جلجامش عله يحظى بصديق. ولكن كان عليه قبل ذلك أن يتحداه ويظهر قوته ونديته له. تقود المرأة إنكيدو إلى مساكن الرعاة، وهناك تلبسه الثياب وتعلمه أكل الخبز وشرب الخمر وأسلوب الحياة المدنية، وبعد فترة تنطلق به إلى أوروك:
هيا إلى "أوروك" فلنذهب معا
حيث المباهج جمة ومروِعة
وخناثهم [8] هم يرتعون على سعة
بثياب غيدٍ يزدهون ملمعة،
وكواهن للحب هنَّ على دعه
في فتنةٍ يمرحن لهواً بالحُلل
في شهوة يطفحن شوقاً للغزل
وعلى أسرتهن يسقين العلل
هو ذاك يا إنكيدو ويا حق الرجل
سأريكه جلجامش الفرح الثمل
انظر تأمل ممعناً أو في عجل
تلق الكمال رجولة لا تحتمل
جسد تزينه الحلل
شهواته تبغي البلل
هو ذاك القوي ومنك أقدر في العمل
ونشاطه ليلاً نهاراً لا يمل
"إنكيدو" لا تغل البطولة للبطل
"شمش" [9] الإله يمده فوق الأمل
"آنو" و "إنليل" [10] و"إيا" [11] دربوه
لا لن يكل
فهماً عميقاً زائداً قد لقنوه،
حتى اكتمل
"جلجامش" سيراك في أحلامه،
حتى تصل
من قبل أن تدنو إلى قدامه،
يا للرجل!"
وصل الاثنان إلى المدينة وهى في ذروة احتفال كبير، فابتهج الناس لرؤية إنكيدو وهتفوا إنه ند لجلجامش. سيدخلان في تنافس دائم وتستريح أوروك. وبينما جلجامش يخطو عتبة باب المعبد لأداء طقوس العيد، تصدى له إنكيدو في الساحة وتحداه، فدخل الاثنان في صراع اهتزت له جدران المعبد:
في ملتقى الأسواق في "أوروك" قد تم اللقاء
ما بين عملاقين قد وقفا لأحكام القضاء
قدم "لإنكيدو" تسد الباب، لكن لا عداء
وتصد "جلجامش" لا يدنو من الوجه المضاء
"جلجامش" أهوى على "إنكيدو" يبغي حده
"إنكيدو" رد على المليك يحد ويصده
وتماسكا كلِ يشد
وتجاذبا كلِ يهدد
خارا كما الثيران في ساح النزال
ودعائم الأبواب حطمها القتال
ثوران بل ثورا عراك لا يخال
مادت له الجنبات واهتز المجال
وكانت الغلبة أخيراً لجلجامش الذى طرح خصمه أرضاً ومنع حركته. وهنا تهدأ ثورة جلجامش ويرخي قبضته عن غريمه ثم يستدير ماضياً في طريقه، فيناديه إنكيدو بكلمات تمتدح رجولته ومروءته، وتكون فاتحة صداقة عميقة بين الطرفين. وما نلبث أن نجد إنكيدو مقيماً في القصر الملكي صديقاً وناصحاً للملك:
لكن "جلجامش" أخيراً شدَّه
وهوى عليه وتحته قد مده
قدمان ثابتان لا تتحركان
والغيظ قد ولى كما يمضي الدخان
وإلى فتاة العرس يمشي باتزان
عقب لقائه بإنكيدو غير جلجامش من سلوكه في الحكم والإدارة، وأرخى قبضته عن رعيته. وما نلبث أن نراه في حالة تأمل عميق في مسألة الحياة والموت، راغباً في الإقدام على فعل جليل يخلد ذكره عبر الأزمان بعد مماته. ثم يفضي بمكنون فؤاده إلى إنكيدو، ويطلعه على نيته في الشروع بمغامرة كبيرة تستهدف الوصول إلى غابة الأرز في أقصى الغرب وقتل حارسها "خمبابا"، الذى أقامه هناك الإله "إنليل" وأوكله برعاية المكان وحمايته. يجزع إنكيدو لسماع ذلك، فهو رأى الوحش "خمبابا" عندما كان يطوف البراري مع القطعان وناله منه الخوف الشديد، رآه يزأر في الغابة كعاصفة الطوفان ومن فمه تندفع ألسنة لهب وأنفاسه تجلب الموت الزؤام عن مسافة بعيدة :
فيقول إنكيدو يشير إلى الصعاب
"كيف المضي إلى تهاويل الشعاب؟
و"خمباباا" حارسها غضوب لا يهاب
وعيونه يقظى سهام أو حراب
"إنليل" أوكله خفيراً مستهاب
يحمي حراج الأرز مرهوب الجناب"
وبعد نقاش ومداولة رضخ إنكيدو لرغبة جلجامش الذى رد بتصميم قائلاً:
"من يا ترى يرقى "لشمس" في السحاب؟ [12]
ليس الورى لكنهم أهل السماء
الخالدون على المدى أهل القضاء
والناس في عمر يحدده الفناء
أعمالهم كالريح تذهب في العراء
هيا أنا أمشي أمامك لا عليك
وبحسبي التشجيع منك بما لديك
وإذا سقطت فشهرة اصنع ليا
ما كان "جلجامش" يوماً راضيا
طلب المحال فمات ليس مباليا"
يتبع...