إيذاء بني إسرائيل لموسى:
قاسى موسى من قومه أشد المقاساة، وعانى عناء عظيما، واحتمل في تبليغهم رسالته ما احتمل في سبيل الله. ولعل مشكلة موسى الأساسية أنه بعث إلى قوم طال عليهم العهد بالهوان والذل، وطال بقاؤهم في جو يخلو من الحرية، وطال مكثهم وسط عبادة الأصنام، ولقد نجحت المؤثرات العديدة المختلفة في أن تخلق هذه النفسية الملتوية الخائرة المهزومة التي لا تصلح لشيء. إلا أن تعذب أنبيائها ومصلحيها.
وقد عذب بنو إسرائيل موسى عذابا نستطيع -نحن أبناء هذا الزمان- أن ندرك وقعه على نفس موسى النقية الحساسة الكريمة. ولم يقتصر العذاب على العصيان والغباء واللجاجة والجهل وعبادة الأوثان، وإنما تعدى الأمر إلى إيذاء موسى في شخصه.
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) (الأحزاب)
ونحن لا تعرف كنه هذا الإيذاء، ونستبعد رواية بعض العلماء التي يقولون فيها أن موسى كان رجلا حييا يستتر دائما ولا يحب أن يرى أحد من الناس جسده فاتهمه اليهود بأنه مصاب بمرض جلدي أو برص، فأراد الله أن يبرئه مما قالوا، فذهب يستحم يوما ووضع ثيابه على حجر، ثم خرج فإذا الحجر يجري بثيابه وموسى يجري وراء الحجر عاريا حتى شاهده بنو إسرائيل عاريا وليس بجلده عيب. نستبعد هذه القصة لتفاهتها، فإنها إلى جوار خرافة جري الحجر بملابسه، لا تعطي موسى حقه من التوقير، وهي تتنافى مع عصمته كنبي.
ونعتقد أن اليهود آذوا موسى إيذاء نفسيا، هذا هو الإيذاء الذي يدمي النفوس الكريمة ويجرحها حقا، ولا نعرف كيف كان هذا الإيذاء، ولكننا نستطيع تخيل المدى العبقري الآثم الذي يستطيع بلوغه بنو إسرائيل في إيذائهم لموسى.
فترة التيه:
ولعل أعظم إيذاء لموسى، كان رفض بني إسرائيل القتال من أجل نشر عقيدة التوحيد في الأرض، أو على أقل تقدير، السماح لهذه العقيدة أن تستقر على الأرض في مكان، وتأمن على نفسها، وتمارس تعبدها في هدوء. لقد رفض بنو إسرائيل القتال. وقالوا لموسى كلمتهم الشهيرة: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).
وبهذه النفسية حكم الله عليهم بالتيه. وكان الحكم يحدد أربعين عاما كاملة، وقد مكث بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة، حتى فني جيل بأكمله. فنى الجيل الخائر المهزوم من الداخل، وولد في ضياع الشتات وقسوة التيه جيل جديد. جيل لم يتربى وسط مناخ وثني، ولم يشل روحه انعدام الحرية. جيل لم ينهزم من الداخل، جيل لم يعد يستطيع الأبناء فيه أن يفهموا لماذا يطوف الآباء هكذا بغير هدف في تيه لا يبدو له أول ولا تستبين له نهاية. إلا خشية من لقاء العدو. جيل صار مستعدا لدفع ثمن آدميته وكرامته من دمائه. جيل لا يقول لموسى (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ).
جيل آخر يتبنى قيم الشجاعة العسكرية، كجزء مهم من نسيج أي ديانة من ديانات التوحيد. أخيرا ولد هذا الجيل وسط تيه الأربعين عاما.
ولقد قدر لموسى. زيادة في معاناته ورفعا لدرجته عند الله تعالى. قدر له ألا تكتحل عيناه بمرأى هذا الجيل. فقد مات موسى عليه الصلاة والسلام قبل أن يدخل بنو إسرائيل الأرض التي كتب الله عليهم دخولها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان قومه يؤذونه في الله: قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر.
مات هارون قبل موسى بزمن قصير. واقترب أجل موسى، عليه الصلاة والسلام. وكان لم يزل في التيه. قال يدعو ربه: رب أدنني إلى الأرض المقدسة رمية حجر.
أحب أن يموت قريبا من الأرض التي هاجر إليها. وحث قومه عليها. ولكنه لم يستطع، ومات في التيه. ودفن عند كثيب أحمر حدث عنه آخر أنبياء الله في الأرض حين أسرى به. قال محمد صلى الله عليه وسلم: لما أسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر.
تروي الأساطير عديدا من الحكايات حول موت موسى، وتحكي أنه ضرب ملك الموت حين جاء يستل روحه، وأمثال هذه الروايات كثيرة. لكننا لا نحب أن نخوض في هذه الروايات حتى لا ننجرف وراء الإسرائيليات التي دخلت بعض كتب التفسير.
مات موسى -عليه الصلاة والسلام- في التيه، وتولى يوشع بن نون أمر بني إسرائيل.
موسى والعبد الصالح:
قال تعالى:
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) (الكهف)
كان لموسى -عليه السلام- هدف من رحلته هذه التي اعتزمها،, وأنه كان يقصد من ورائها امرا، فهو يعلن عن تصميمه على بلوغ مجمع البحرين مهما تكن المشقة، ومهما يكن الزمن الذي ينفه في الوصول. فيعبر عن هذا التصميم قائلا (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا).
نرى أن القرآن الكريم لا يحدد لنا المكان الذي وقت فيه الحوادث، ولا يحدد لنا التاريخ، كما أنه لم يصرح بالأسماء. ولم يبين ماهية العبد الصالح الذي التقاه موسى، هل هو نبي أو رسول؟ أم عالم؟ أم ولي؟
اختلف المفسرون في تحديد المكان، فقيل إنه بحر فارس والروم، وقيل بل بحر الأردن أو القلزم، وقيل عند طنجة، وقيل في أفريقيا، وقيل هو بحر الأندلس.. ولا يقوم الدليل على صحة مكان من هذه الأمكنة، ولو كان تحديد المكان مطلوبا لحدده الله تعالى.. وإنما أبهم السياق القرآني المكان، كما أبهم تحديد الزمان، كما ضبب أسماء الأشخاص لحكمة عليا.
إن القصة تتعلق بعلم ليس هو علمنا القائم على الأسباب.. وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي.. إنما نحن أمام علم من طبيعة غامضة أشد الغموض.. علم القدر الأعلى، وذلك علم أسدلت عليه الأستار الكثيفة.. مكان اللقاء مجهول كما رأينا.. وزمان اللقاء غير معروف هو الآخر.. لا نعرف متى تم لقاء موسى بهذا العبد.
وهكذا تمضي القصة بغير أن تحدد لك سطورها مكان وقوع الأحداث، ولا زمانه، يخفي السياق القرآني أيضا اسم أهم أبطالها.. يشير إليه الحق تبارك وتعالى بقوله: (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) هو عبد أخفى السياق القرآني اسمه.. هذا العبد هو الذي يبحث عنه موسى ليتعلم منه.
لقد خص الله تعالى نبيه الكريم موسى -عليه السلام- بأمور كثيرة. فهو كليم الله عز وجل، وأحد أولي العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والنبي الذي أنزلت عليه التوراة دون واسطة، وإنما كلمه الله تكليما.. هذا النبي العظيم يتحول في القصة إلى طالب علم متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم.. ومن يكون معلمه غير هذا العبد الذي يتجاوز السياق القرآني اسمه، وإن حدثتنا السنة المطهرة أنه هو الخضر -عليه السلام- كما حدثتنا أن الفتى هو يوشع بن نون، ويسير موسى مع العبد الذي يتلقى علمه من الله بغير أسباب التلقي الني نعرفها.
ومع منزلة موسى العظيمة إلا أن الخضر يرفض صحبة موسى.. يفهمه أنه لن يستطيع معه صبرا.. ثم يوافق على صحبته بشرط.. ألا يسأله موسى عن شيء حتى يحدثه الخضر عنه.
والخضر هو الصمت المبهم ذاته، إنه لا يتحدث، وتصرفاته تثير دهشة موسى العميقة.. إن هناك تصرفات يأتيها الخضر وترتفع أمام عيني موسى حتى لتصل إلى مرتبة الجرائم والكوارث.. وهناك تصرفات تبدو لموسى بلا معنى.. وتثير تصرفات الخضر دهشة موسى ومعارضته.. ورغم علم موسى ومرتبته، فإنه يجد نفسه في حيرة عميقة من تصرفات هذا العبد الذي آتاه الله من لدنه علما.