تقديم كتاب (الشعر الشعبي اليافعي وأعلامه)
توطئة
يافع مخلاف وصقيع كبير نسب إلى يافع بن قاول بن زيد بن ناعته بن شرحبيل بن الحارث بن زيد بن القيل الكبير يريم ذو رعين الأكبر. عُرفت يافع قديماً باسم "دهس" أو "دهسم". ويستفاد من الهَمَدَاني في كتابه "الإكليل" و"صفة جزيرة العرب" أن أرض حِمْيَرْ الأصل هي سَرْو حِمْيَرْ, وقلب سَرْو حمير هي بلاد يافع. وتعد المناطق المجاورة لها من أحلافها. وقد عَدَّد الهمداني كثيراً من مدنها وأوديتها وجبالها كالعر وثمر وحبة وعلة وحطيب ويهر وذو ناخب، وذو وثاب وسَلَفَةْ وشعب وعر ميحان وسلب والعرقه ومدور وتيم ومعظم هذه الأماكن ما زالت تحمل الأسماء نفسها إلى اليوم. ويصف المؤرخ والمحقق محمد بن علي الأكوع يافع بأنها :" قبيل ضخم مرهوب الجانب , شديد الشكيمة ذو إباء وشمم وعروبة يعربية. وهم دائماً لَقَاحٌ , لا يدينون لسلطان. وإقليمهم فسيح ومخلاف واسع ولا ناقلة فيهم".
ظلت يافع حتى عشية الاستقلال الوطني الذي تحقق في 30 نوفمبر 1967م بمنأى عن السيطرة الاستعمارية البريطانية, وهي تفخر في كونها المنطقة الوحيدة من بين مناطق الجنوب اليمني المحتل التي ظلت عصية على القوات الاستعمارية ولم تخضع للإدارة البريطانية, وبقيت تحكم نفسها من خلال منظومتها القبلية التي يأتي على رأسها السلاطين والمشايخ وتخضع لأحكام العُرف القبلي والعادات والتقاليد المتبعة التي يحفظها الناس ويتقيدون بها طوعياً, لأنها تعد بالنسبة لهم دستوراً غير مكتوب. إذ كانت يافع تنقسم قبلياً إلى عشرة مكاتب, خمسة منها (كلد، اليزيدي، الناخبي،السعدي واليهري) وتعرف بـ"يافع بني قاصد" أو يافع السفلى وتتبع "السلطنة العفيفية" نسبة إلى مؤسسها محمد عبدالله بن أسعد الملقب "عفيف الدين", وعاصمتها "القارة" وهي السلطنة الأقدم ليافع عامة حيث نشأت مع تفكك الدولة الطاهرية مباشرة وتحديداً في سنة 942هـ. وخمسة مكاتب هي (لبعوس, الموسطة, الضُّبي,الحضرمي) المفلحي في الجزء المسمى "يافع بني مالك" أو "يافع العليا" وتتبع"سلطنة آل هرهرة" التي ظهرت سنة 990هـ نسبة إلى الشيخ العلامة علي بن أحمد هرهرة وعاصمتها "المَحْجَبَةْ". وقد لعبت هاتان السلطنتان أدواراً هامة في تاريخ يافع في القرون الأربعة اللاحقة, ليس فقط في إدارة شئون المنطقة الداخلية واستتباب الأمن, بل وفي مواجهة الأتراك الذين لم يطل بهم المقام في يافع وأُجبروا على مغادرة حصن (الخلقة) في منطقة الحد – يافع الذي حاولوا منه بسط سلطتهم على المنطقة. ثم تصدرت مقاومة جيوش الدولة القاسمية التي خلفت الحكم العثماني في اليمن ولم تستطع أن تمد سيطرتها على أجزاء من يافع إلاَّ لفترة زمنية محدودة بفعل مقاومة القبائل اليافعية بقيادة سلاطينها آل هرهرة وآل عفيف في العديد من المواجهات الشرسة داخل المنطقة وخارجها أرغمتها على التراجع من يافع والمناطق المجاورة لها. وظلت يافع تاريخياً السند القوي لكثير من الأمراء والحكام الذين فقدوا ملكهم وكذلك في تأسيس دول جديدة ، وبرز دورها الهام في تقرير المصير التاريخي في حيز المنطقة وفي تأثيرها الفعال الذي قد يغير مجرى تاريخ معين لمنطقة ما خارج حدود يافع كما حدث في حضرموت.
في الوقت الراهن تتوزع مناطق يافع, حسب التقسيم الإداري بين محافظتي لحج وأبين. فتتبع محافظة لحج كل من مديريات: لبعوس، المفلحي، الحد ويهر. فيما تتبع محافظة أبين كل من مديريات: جعار، رصد، سرار وسبـَّاح.
وتشتهر يافع بآثارها التاريخية وبنمطها المعماري الفريد والمميز, وليس مبالغة أن أطلقت المتخصصة في العمارة الاسلامية المهندسة سلمى الدملوجي على البيوت اليافعية " ناطحات السحاب الحجرية" فارتفاع بعضها يصل إلى ستة وسبعة أدوار مبنية من الحجر. كما تشتهر يافع بزراعة البُن ذي الجودة العالية وفيها الكثير من المواقع الأثرية والسياحية الجميلة.
أهمية الشعر الشعبي
كم هو رائع أن يحظى الشعر الشعبي بالتدوين والتوثيق والنشر ليتاح للنقاد والمتخصصين التعرض له بالبحث والدراسة والتحليل, وما أكثر ما لدينا في الأدب الشعبي اليمني من شواهد تستدعي التقييم والتحليل والدراسة. خاصة إذا ما عرفنا المكانة الأثيرة التي يحتلها هذا اللون الأدبي لدى غالبية الشعب ودوره المؤثر الذي لا يقل أهمية عن الشعر الفصيح, بل لا نبالغ إن قلنا أنه قد تفوق عليه انتشاراً وتأثيراً في حياة شعبنا وفي مختلف مراحل النضال ضد الحكم الإمامي الاستبدادي في الشمال والاستعمار الأجنبي في الجنوب. وقد أحسن أديبنا وشاعرنا الكبير د. عبدالعزيز المقالح حينما أدرك بحس الشاعر ورؤية الناقد أهمية الشعر الشعبي فرصد معالمه ورموزه وأبعاده وخصص لذلك أطروحته العلمية الموسومة "شعر العامية في اليمن". وأجدني متفق معه وهو يتحدث عن افتتانه وانفعاله بالشعر الشعبي, حيث قال:" واشهد, وهذا عن تجربة شخصية إنني انفعلت كثيراً لنماذج كثيرة من شعرنا الشعبي في اليمن, ولم أنفعل إلاَّ قليلاً جداً مع نماذج قليلة من شعرنا الفصيح, لماذا؟ لا أدري. ولو كنت أدري لما تجرأت على الحديث عن هذا الذي أدريه عن سبب إفلاس شعر الفصحى من عناصر التأثير, وذلك خشية أن أتهم بما أنا منه بريء".
إن مثل هذا الافتتان والانبهار السحري بالنماذج الرائعة والكثيرة من الشعر الشعبي, ينتاب الكثيرين من المولعين بهذا اللون الأدبي الواسع الانتشار, ليس فقط على مستوى بلادنا, بل وعلى مستوى دول الجزيرة والخليج العربي, وليس أدل على ذلك من قيام قنوات فضائية متخصصة ومسابقات مليونية خاصة بالشعر الشعبي, الذي يطلق عليه أشقاؤنا في الخليج اسم "النبطي" ونختلف في اليمن على تسميته بـ "الحميني " أو "العامي" أو "الشعبي" فيما يسميه اللبنانيون"الزجل".وبعيداً عن المعيار اللغوي فجميع هذه التعريفات تطلق على ذلك الشعر الذي ينظم باللهجات العامية المحلية لتمييزه عن الشعر الفصيح. ولا زالت لهذا الشعر قاعدة عريضة, تتسع مع اتساع وسائل التوصيل والتلقي, وهو ما يفسر ذلك الاهتمام الكبير الذي يحظى به عبر القنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام, التي تسعى دون شك لإرضاء أذواق الجمهور الواسع من المتلقين.
الشعر الشعبي في يافع
قد يتساءل البعض عن الهدف من الاهتمام في تقديم الشعر الشعبي اليافعي وإبراز أعلامه. فأسارع بالقول بأن هذه الأشعار بفنونها المختلفة هي ملك للشعب وتراث يفاخر به, بل وتكاد أن تكون هي الذاكرة الجَمْعِيْة التي أرَّخت لقرون خلت من حياة وتاريخ منطقة يافع "سِرْو حِمْيَرْ" غير المكتوب, وهي قرون كان الزمن فيها متثاقلاً في حركته ورتيباً في تطوره, بل وتجمدت في جوانب كثيرة, وكانت حياة الناس مشحونة بالأحداث والفتن القبيلة.. ولا نبالغ إذا ما قلنا أن المنطقة عرفت خلال هذه الحقب الزمنية السلاح والقتال, أكثر من أي شيء آخر.. وسال من دماء أبنائها في حروبهم القبلية بين بعضهم البعض أو مع غيرهم من القوى المحلية أكثر من الحبر الذي سال من محابرهم.. وتظل الأشعار الشعبية من أهم المصادر التاريخية التي يمكن الرجوع إليها في معرفة الكثير من الأحداث غير المدونة واستخلاص الحقائق التي يرد عرضها في نصوص الشعراء الشعبيين.
إن الأشعار الشعبية تحمل الروح الأصلية للشعب, لأنها نابعة من صميم حياة الناس العادية ومن قلب الأحداث التي عاشها وعركها الشعراء ونقلوها بواقعية ومصداقية في أشعارهم بكل ما فيها من ترح أو فرح. فاليافعيون, مثل غالبية اليمنيين, مولعين بالشعر, نظماً وتذوقاً, ونجد الشعر حاضراً في كل شئون حياتهم. فلهم أشعارهم وأهازيجهم وأغانيهم في كل أفراحهم وأتراحهم, في حلهم وترحالهم, في أثناء عملهم وفي فترات راحتهم, في السلم أو الحرب.. فحين كان الناس يعبرون عن حدث أو يفصحون عن رأي أو يحددون موقفاً ما يقولون ذلك شعراً.. يرحبون بالضيف شعراً.. وحينما يفخرون بأنفسهم يقولون ذلك شعراً.. ويهجون خصومهم بالشعر.. وحينما يرعون الأغنام يرددون الأشعار الغنائية التي تؤنسهم في وحدتهم في مراعيهم في فجاج وبطون الجبال والأودية .. وعند حراثة الأرض أو أثناء البذار أو الحصاد يرددون الأشعار الفلكلورية فتكون زاداً معنوياً يشحذ هممهم ويبعث فيهم الحماسة والنشاط المتجدد في القر أو الحر.. وللكلمات الشعرية القول الفصل في التحريض أو في حل القضايا والمنازعات والفتن القبلية, وحتى في التسلية وقضاء أوقات الفراغ..الخ.
ولكن من أين لنا أن نبدأ في الحديث عن الشعر الشعبي اليافعي؟ .. الحقيقة أنه يصعب تحديد البدايات الأولى, فهو قديم قِدَم الإنسان اليافعي الذي استوطن مرتفعات سرو حمير قبل أكثر من ألفي عام وأبدع فيها شواهد وآثار حضارية لا زالت معالمها شامخة شموخ الجبال المنيفة "العر" و"ثمر" و"جار" و"القارة" و"موفجة" و"الجبل لعلي" و"خنفر". وما بين أيدينا من الشعر الشعبي يعود أقدمه لبضع قرون خلت فقط, أما الأشعار التي تعود إلى ما قبل ذلك فقد ذهبت أدراج الرياح لانعدام التدوين بسبب انتشار الجهل وشيوع الأمية والاضطرابات والفتن القبلية, ومعظم ما نقدمه حفظته لنا الذاكرة الشعبية وتناقله الرواة جيلاً بعد جيل, مع ما يترتب على ذلك من فقدان بعض الأبيات أو تداخلها أو تقديم وتأخير بعضها وحتى تغيير بعض الأبيات أو أجزاء منها أو تحوير بعض الكلمات, وهذا ما وجدناه في القصائد الأكثر قدماً على وجه الخصوص. وعلى أية حال فما نقدمه هنا ليس سوى نزر يسير مما أمسكنا به وحصلنا عليه بطرق مختلفة. ويلاحظ قلة عدد الشعراء القدماء الذين وصلت إلينا بعض أشعارهم, ويمثل الشاعر والفنان الشهير يحيى عمر اليافعي "أبو معجب" أقدم هؤلاء (1062 - 1152هـ ), والفضل في حفظ الكثير من أشعاره أنها نالت نصيبها من الغناء بألحان أصيلة مأخوذة من تلك الأصوات الفلكلورية التي يرددها الناس في كثير من المناسبات والأوقات في أثناء عملهم أو في لحظات فرحهم. ويليه الشاعر الفقيه أحمد بن عبدالله بن علي حيدر عزالدين البكري(الذي أرَّخ في شعره لأحداث تاريخية لها مكانتها في وجدان اليافعيين فوجدت مكانة لها في ذاكرتهم). أما إذا ما اقتربنا من زمن وفاة الشعراء فأن أعدادهم تزيد بالتدريج, لاسيما خلال القرن الماضي, ربما لأن أشعارهم لا زالت قيد التداول أو أنها نالت حظها من التدوين أو الغناء من قبل المطربين الشعبيين, أو بقيت محفوظة لدى ذويهم وأقربائهم والمعجبين بهم.
إن للشعر الشعبي في يافع (سِرْوْ حِمْيَرْ) مكانة مميزة , فهو يُعد من أهم ركائز الثقافة الشعبية وكان وما يزال اللون الأدبي الأكثر انتشاراً بين الناس. وكانت مرتبة الشعراء كبيرة في العهد القبلي, فالشاعر هو لسان حال القبيلة والناطق الرسمي باسمها, ولكل قبيلة شعراؤها الذين تتباهى بهم, وكان الناس يفاضلون بين الشعراء وأيهما الأفضل والأقوى حجة والأكثر تأثيراً وإيلاماً للخصم .. وكانت القيم العليا في المجتمع القبلي هي الموجه للشعراء ويركزون عليها في شعرهم بما يخدم أهداف القبيلة وتطلعاتها, وكانت قضايا العُرف والعادات السائدة ألصق بأغراض الشعر القبلي, وما كان منها مخالفاً لذلك فهو منبوذ, وما كان منسجماً معها فهو المستحسن والمقبول, وكان التركيز في الشعر على المألوف في حياتهم وعاداتهم. كما كان للشعر الشعبي في المجتمع القبلي أهدافه الاجتماعية الواعية, وأسهم في تبادل الأفكار والآراء بصيغ فنية وبلاغية وبيان بديع في مختلف القضايا الحيوية أو الترفيهية أو الغزلية, وكانت الأشعار: زوامل, قصائد, أهازيج, مساجلات, تستخدم في أغراض مختلفة وتعبر عن أحاسيس مشتركة وأفكار ومواقف متشابهة, وفي الزامل بالذات لا نجد شعراء فرديين ينشدون لأنفسهم, بل نجد أن معظم الشعراء يتبادلون قضايا اجتماعية, فالشاعر يندمج مع المجتمع الذي يهيء له الأجواء وبواعث الإبداع فيأتي إبداعه متشبعاً بقيم وأفكار اجتماعية ويكون فاعلاً ومشحوناً بالدلالات والتحريض على الفعل, كما كان الشعراء يقومون بالوعظ والنصح والإرشاد والحث على مكارم الأخلاق وتربية النفوس بقيم الخير ونشر الفضائل. كما لا تخلو القصائد الشعبية من تجارب ذاتية تغدو بعد تعميمها ونشرها بين الناس تجارب إنسانية يتلقفها الناس لصلتها بهم وبما يدور في نفوسهم من أحاسيس وعواطف ولما تمثله من قيم نبيلة.
يمكن القول أن معظم الشعراء الذين نقدمهم أميون, لعدم وجود المدارس في زمنهم, وأقصى ما حصل عليه بعضهم هو معرفة القراءة والكتابة من خلال التحاقهم في "الكُتَّاب" أو "المعلامة" التي كانت الشكل الوحيد السائد من التعليم, وقليل منهم من حظي بقدر أكثر من التعليم التقليدي خارج المنطقة. وجميعهم نظموا الشعر بالفطرة وامتلكوا الموهبة أو الملكة الشعرية المعروف لديهم بـ"الهليلة" أو "الهاجس" وعرفوا الأوزان والقوافي والإيقاعات الشعرية بالتجربة المتناقلة, وقالوا في أكثر أغراض الشعر وطرقوا أبوابه وموضوعاته المتنوعة التي يتداخل فيها الخاص والعام وعبَّروا بلغتهم العامية, لغة الشعب, عن أحاسيسه ومشاعره, واستنهضوا هممه وترجموا مواقفه في الاستحسان أو الرفض, فكانت أشعارهم, وبحق,قوة نابضة بالحياة وسجلاً حافلاً لحياة مجتمعنا بتحولاته وأحداثه المختلفة التي انعكست في أشعارهم. ففي تلك الأشعار يتردد صدى الأحداث المحلية والوطنية والقومية أكثر مما في قصائد الشعر الفصيح, لأن الشعراء الشعبيين يؤرخون للمزاج الشعبي ويتفاعلون معه أولاً بأول ولا يَدَعُون مثل تلك الأحداث تمر دون أن يقولوا كلمتهم فيها.
قد يصف البعض الأشعار الشعبية بأنها استجابة سطحية للأحداث العابرة, لكن الشواهد الشعرية الكثيرة من القصائد الشعبية الرائعة التي نقدمها تظل متوهجة ومتألقة بمرور الزمن. وحين نقرأ تلك الأشعار اليوم, رغم انقضاء المناسبة التي قيلت فيها,نجد أنها تهزنا وتحرك وجداننا وكأننا نعيش الأحداث, وهنا تكمن قوة هذه الأشعار وجاذبيتها وسحرها. ومنها نتعرف على أحداث تاريخية أرَّخ لها الشعراء الشعبيون سواء على المستوى المحلي الضيق أو الوطني والقومي وحتى الإنساني بشكل عام, ونجد فيها معلومات عن أحوال الناس الاجتماعية وحياتهم الاقتصادية والمعيشية وعاداتهم وتقاليدهم ومأكلهم ومشربهم وعلاقتهم بجيرانهم وكل دقائق حياتهم. وإجمالاً فأن هذه الأشعار تمثل, في مجملها, تجسيداً فنياً للحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع القبلي اليافعي, ولا يمكن الحديث عنها بمعزل عن سياقها التاريخي أو الاجتماعي, لأن الشعر ظاهرة اجتماعية وهو عميق الصلة بحياة المجتمع وصورة ناصعة لها, بكل أفراحها وأتراحها. وما يميزهذه الأشعار أنها مليئة – بدرجات متفاوتة- بالصور الفنية والبلاغية, بما فيها من بديع وبيان ورموز موحية وموسيقى الألفاظ, بعيداً عن التكلف أو الالتفات إلى الصنعة الفنية أو الزخرفة اللفظية. وهي ببساطة لغتها وثراء وغزارة معانيها تنساب إلى القلوب بتلقائية وسلاسة وبرقة الماء وعذوبته.
لقد ظهر البعد السياسي في الشعر الشعبي اليافعي في وقت مبكر من المقاومة والصراع مع الأتراك ثم الأئمة ثم الانجليز. فرغم الصراع الذي دار بين مناطق الجنوب والأئمة, إلاَّ أن يافع كانت أشرس المقاومين لنفوذ الأئمة, وكانت بين يافع والأئمة صولات وجولات وكر وفر, وكذا مع الأتراك والانجليز وكانت الغلبة في الأخير ليافع لحصانة مناطقهم وإدمانهم القتال , ورغم ضياع الكثير من النصوص, إلاَّ أن الذاكرة الشعبية قد حفظت لنا نماذج منها تتحدث عن ذلك الصراع في مراحل مختلفة (أمثال الفقيه البكري, محمد زيد الحريبي, عبدالرب الدغفلي وغيرهم) وقد كان هؤلاء الشعراء في قلب الأحداث وشاركوا فيها ورصدوا تفاصيلها ووقائعها وقتل البعض في غمارها. ونجد أن معظم شعرائنا الشعبيين, رغم التمزق والعزلة, هم أصحاب مواقف, ليس فقط إزاء الأحداث المحلية أو الوطنية العامة, بل والقومية وحتى الإنسانية, فلم يقتصر وعي كثير من الشعراء الشعبيين على التعبير عن قضاياهم الخاصة أو نقد الأوضاع التي يعيشها محيطهم القبلي أو التعبير عن هموم قومهم, بل كان وعيهم يتسع ليحيط بما يدور في بقية أجزاء اليمن, أو يمتد بامتداد الوطن العربي والإسلامي. وهذا ما نجده في الأشعار التي تعود إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية والمواقف المبكرة من القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا التي تهم الأمة العربية والإسلامية.
-------------------------------------
[FONT="][FONT="][
1][/FONT][/FONT][FONT="] انظر تحقيقه لكتاب "
الإكليل" للهمداني,ج2,ص 298.[/FONT]
مقدمة الكتاب تتبع ,,,