رد: تقديم كتاب (شاعر يواجه أكثر من مائة شاعر)
[font="]الخالدي.. شاعر جواب[/font][font="][/font]
[font="]كان الخالدي في معظم مساجلاته الكثيرة والمتعددة مع الشعراء الشعبيين شاعر جَوَاب,خاصة في العقدين الأخيرين من حياته حيث نجد قصائد "البِدْع" التي بادر بها قليلة ووجهها لمن يؤثرهم من الشعراء, وهذا ليس لتعاليه عن أنداده وأصدقائه, معاذ الله, وإنما لكثرة ما يصل إليه من القصائد من مختلف الشعراء الأمر الذي يجد نفسه ملزماً للرد على كل ما يصل إليه ويستحق الرد فعلاً, ومنذ مطلع الثمانينات كثر عدد الشعراء الشعبيين الذين اتجهوا إليه بقصائدهم من شمال الوطن وجنوبه آنذاك, وازدادت أعدادهم بعد الوحدة وحتى وفاته, وكأن الشعراء الشعبيين يتوّجونه أميراً لهم دون مراسيم رسمية, لأن عرش الشعر الشعبي لا يعتليه أحد بمرسوم أو قرار وإنما يصل إليه من يفرض نفسه من خلال أشعاره التي يقر الآخرون بجودتها ويعترف بأفضليتها الأصدقاء والخصوم معاً، وهو الأمر الذي حظي به الخالدي وأقر له بمكانته تلك, التي لم يدَّعها,أنداده الشعراء, فكان يرد الصاع صاعين ويعطي كل ذي حق حقه, ويكيل للأصدقاء والخصوم بذات الكأس التي كالوا له فيها, بل ويزيد, وكان يلتزم أدب الحوار وأصول المناظرة ويحرص على أن لا يستخدم ألفاظاً فاحشة لا يستسيغها الذوق العام،وعلى ما اتسم به شاعرنا من دماثة خلق وتواضع وخفة روح فقد كان أيضاً ذا أنفة وكبرياء لا يقبل أن يستخف به جاهل أو متعالي, وحين يبتلى بشاعر ثقيل كان يردعه بقوة وبقسوة, لكنه كان لا ينشر تلك القصائد ولا يسمح بغنائها ويكتب عليها "محظورة لا تغنَّى" وهذا دليل على عدم قناعته في خوض مثل تلك المساجلات التي اضطر إليها اضطراراً فقط, كما لم ينساق إلى الرد على بعض المتطفلين والدخلاء على الشعر الشعبي, فأهمل أمثال هؤلاء ولم يرد عليهم, فيما كان يتجاوب بسرور مع كل الشعراء المجيدين بغض النظر عن شهرتهم أو موقفهم الذي يكون, على الأغلب, نقيضاً لموقفه, بل أنه كان يأخذ بيد البعض مشجعاً, وكان الأهم بالنسبة له هو الشعر ذاته كقيمة فنية وأدبية وكموقف أخلاقي واجتماعي وتربوي. [/font]
[font="]لم يكن الشعر بالنسبة للخالدي ترفاً أو للتسلية أو للمدح بقصد التكسب, بل كان بالنسبة له رسالة وموقف. فقد سجل من خلا أشعاره ما يجيش في خاطره على إمتداد نصف قرن من تجربته الإبداعية, وصور ما كان يعتمل في الواقع بلغة شعرية سلسلة وبسيطة, حيث نجد وصفاً لأوضاع وأحوال المجتمع القَبَلَيْ في يافع ماقبل الاستقلال, بما فيه من أفراح وإتراح وبقيمه وعاداته النبيلة وبما يعج به من مشاكل وفتن, وبرزت المشاعر الوطنية في شعره منذ وقت مبكر, رغم التمزق والعزلة, حيث نجد رؤاه الوطنية والقومية الناضجة في تعرضه لوقائع ومجريات الأحداث وتقلباتها وأبعادها. فقد وظَّف معظم أشعاره لقضايا الوطن والشعب وتنبأ بأحداث أثبتت الأيام صحة تنبؤآته وتوقعاته. وتؤرخ هذه المجموعة الثمينة من المساجلات لمراحل تاريخية هامة ولأحداث قد لا نعثر على ذكر لبعضها في المصادر أخرى, وهنا تكمن القيمة التاريخية للشعر الشعبي, كمصدر مساعد, بل وأساسي في تدوين بعض الأحداث في المناطق التي حُرمت من التعليم وظلت أسيرة العزلة والجهل والتخلف, كمنطقة يافع وغيرها من مناطق اليمن. [/font]
[font="]ونجد أن مدينة عدن حاضرة في مساجلات الخالدي, كما في كثير من أشعاره, فقد عاش فيها أجمل سنوات شبابه واستقر فيها للسكن والعمل معظم سنوات عمره ونظم فيها أكثر قصائده قصائده,وكانت تتنازع حبه مع مسقط رأسه يافع, وهو ما نجده في الاستهلالة التقليدية التي تبدأ فيها كثير من قصائد المساجلات سواء الموجهة إليه وتعنون إلى عدن, حيث منزله والمقر, أو تلك التي يرسلها وتتضمن ترحيبه الحار الذي يملأ عدن والمعلا, أو خور مكسر والغدير, أو يوازن جبل شمسان..الخ. ناهيك عن تغنيه بعدن, الأرض والإنسان, ورصد وتسجيل ما شهدته من أحداث على مدى حياته الإبداعية, وتأثره الملحوظ باللهجة العدنية.[/font]
[font="]الخالدي يساجل نفسه:[/font]
[font="]قد يتساءل البعض وأين مكانة القيفي؟ ولماذا لم يرد اسمه ضمن قائمة الشعراء الذين تساجل الخالدي معهم؟ .. ولهؤلاء أقول أنني قد خصصت كتاباً حمل عنوان( فراسة شاعر ساجل نفسه.. حقيقة ما دار بين الخالدي والقيفي من أشعار) وصدر عام 2007م, وأثبت فيه أن تلك المساجلات الشهيرة التي استمرت خلال الفترة (81- 1989م) لم تكن سوى من ابداع قريحة الخالدي الشعرية مع شخصية " شاعر وهمي" اصطنعه من وحي خياله باسم أحمد علي طاهر القيفي, ليقول على لسانه ما يريد قوله ويوصل رسالته لمعالجة قضايا الوطن اليمني الواحد, بنظاميه الشطريين المتناقضين, فتفتق ذهنه عن هذه الطريقة الفريدة ليأتي بقصائده على لسان غيره ينتقد فيها كثيراً من ممارسات وعيوب النظام في الشطر الجنوبي, ويكون هو في ذات الوقت من يرد منتقداً ومفنداً عيوب الشطر الشمالي وكأنه لسان حال الشطر الذي يتحدث باسمه أو ينتمي إليه,دون أن يعرف أحد هذا السر أو يتنبه له, فانتشرت أشعاره على نطاق واسع في الشطرين متجاوزة الحدود الوهمية ونقاط التفتيش, دون استئذان, وبدهائه هذا جَنَّب نفسه المساءلة وأبعدها عن الشبهات التي تعرضه لمضايقات هو في غنى عنها. ويسجل له أنه صاحب هذه الطريقة الذكية وغير المسبوقة في الأدب الشعبي اليمني, التي تنم عن فراسة وعبقرية مبتكرها, كشاعر كبير لم تعييه الحيلة عن الذهاب إلى أن يبدع روائع باسم غيره ويرد عليها, لأن المهم بالنسبة له كان إيصال الفكرة وتأدية الرسالة كشاعر[/font][font="] صاحب موقف.[/font]
[font="]وختاماً..[/font][font="] لقد كان الخالدي رحمه الله شاعراً وإنساناً ودوداً مع الأصدقاء ولدوداً مع "الخصوم الأحباء" من الشعراء الشعبيين, فبقدر ما يستفزه أحدهم يكون رده أعنف وحجته أقوى, ولكنه كان كإنسان صديقاً للجميع, وبالذات خصومه الشعراء, الذين كانت تربطه بهم صداقة حميمة، وكان بيته في عدن، حي المعلا, ملتقى يؤمه كل أصدقائه والمعجبين بشعره وشخصيته المرحة والمتواضعة، وكانت خسارة الوطن والشعر الشعبي بوفاته في في 31ديسمبر1998م كبيرة, وخسر الشعراء الشعبيون شيخهم وأميرهم غير المتوج, وما يعكس خسارة الشعر والشعراء الشعبيين بفقدان "أبولوزة" هو ذلك العدد الكبير من قصائد الرثاء التي وصلت من كل حدب وصوب، من داخل الوطن ومن المهجر, من أصدقاء الشاعر ومن المعجبين به والمتأثرين بفقدانه, وأذكر أننا في اللجنة التحضيرية لأربعينية الفقيد الخالدي لم نتمكن من نشر كل ما وصل إلينا لضيق الوقت حينها, والتزامنا بإصدار الكتاب الخاص بأربعينيته في موعده, لذلك لم تظهر في الكتاب إلاَّ قصائد قليلة من قصائد الرثاء, ولا زالت بحوزتي قرابة ستين قصيدة لم تر النور وتكاد تشكل لوحدها ديواناً متكاملاً في رثاء الشاعر من شعراء مشهود لهم في ميدان وسوح الشعر الشعبي من مختلف المناطق اليمنية, ولم ما لا نجد له نظيراً مع غيره من الشعراء الذين توفاهم الله, وهذا يعكس,دون شك, تلك المكانة الكبيرة والمتميزة التي احتلها في حياته في قلوب هؤلاء الشعراء, وسيظل بما تركه من إبداع ثَرٍ خالداً في ذاكرة التاريخ .[/font]