تقديم كتاب (شاعر الحكمة.. صالح سند .. خير من نشد)
[FONT="]ينتشر الشعر الشعبي بشكل كبير في أرياف وجبال بلادنا، ويعتبر أهم مظاهر الأدب الشعبي، ويلقى قبولاً كبيراً في أوساط الناس الذين يحفظون ويتناقلون أجوده، وقد يستشهدون به في كثير من أمور حياتهم لتوافقه مع أمزجتهم وملامسته لهمومهم وتناغمه مع رغباتهم وغاياتهم مهما تقادم الزمن به. [/FONT]
[FONT="]وفي منطقة يافع فإن للشعر الشعبي طقوسه المميزة ومكانته الهامة التي جعلت منه، بكل فنونه، الشكل الأدبي الأكثر انتشاراً وتأثيراً في صفوف المجتمع, وكان الشعراء يحظون بمكانة رفيعة في المجتمع القبلي، فهم لسان حال القبيلة في الذب عن حياضها والدفاع عن سمعتها وإعلاء مكانتها أمام الخصوم، وبهم تتفاخر القبائل، وعليهم يتوقف إحياء الأفراح والمناسبات التي يكون الشعر والغناء أو الزامل عنوانها الرئيسي.[/FONT]
[FONT="]ورغم كثرة شعراء يافع على امتداد الحقب الزمنية الماضية وجودة أشعارهم وتعدد موضوعاتها وأغراضها المطروقة، إلاَّ أن أحداً منهم لم يحظ بشهرة يحيى عمر اليافعي " أبو معجب"، خارج يافع، بسبب العزلة التي عاشتها المنطقة وشيوع الجهل والفتن القبلية التي كانت السمة الرئيسية لعهود ما قبل الاستقلال الوطني 1967م. ومع ذلك فإن شهرة كثيرين منهم كبيرة داخل مناطق يافع ويتداول الناس أشعارهم شفاهة، ومنهم صاحب هذا الديوان الشاعر الشهير صالح سند بن صالح اليزيدي. وهو يعد وبحق من أشهر شعراء الحكمة في يافع. وتنتشر أشعاره في كثير من المناطق، حيث أصبحت جزءاً من التراث الشعبي، لأنها تتوافق مع مزاج الناس ومع رغباتهم وغاياتهم، لذلك يحفظونها في ذاكرتهم وتتناقل شفاهة من جيل لجيل. رغم أن كثيرين لا يعرفون شيئاً عن صاحبها.[/FONT]
[FONT="]وأشعار صالح سند الحكمية تُلخص في قوالب شعرية جميلة الكثير من الحكم والأمثال الشعبية المستمدة من تجارب الحياة أو من التراث الديني أو من التقاليد الاجتماعية، وهي عبارة عن مواعظ ونصائح وقواعد أخلاقية ذات جذور تاريخية ولها ارتباط حميمي بالسلوك الجمعي المتوارث.[/FONT]
[FONT="]لقد قرأت للكثير من الشعراء الشعبيين في يافع فكان صالح سند ممن أعجبت بأسلوبه المميز الذي ينشد الحكمة ويوشي بها شعره. إنه شاعر حكيم حقاً تعمق في هموم القلب الإنساني وعبر عما يجول في النفوس، وجعل من قصائده رسالة أراد توصيلها لأبناء مجتمعه، ويجد المرء في شعره بلسماً شافياً للروح، وقبساً منيراً في الليل الحالك، لذلك أحبه الناس وضمنت الذاكرة الجمعية الخلود لشعره.[/FONT]
[FONT="] وحين أطلق عليه شاعر الحكمة لا أبالغ في القول، لأن الحكمة هي الملمح الأبرز في معظم أشعاره، بل أنها تكاد أن تكون الموضوع الرئيسي الذي طغى على بقية الأغراض الشعرية لديه، حتى أنه يعترف في إحدى قصائده بأنه لم يطرق باب الغزل (القصائد الخُضر باللهجة اليافعية) ولا الكلام الذي يطلق على عواهنه دون فائدة ترتجى منه وهو ما يسميه (كلام الحِِلَق والخثمطه):[/FONT]
صالح سند قال ببياته لقط
************ من النشط ذي بقلبه لقّطه
حاشا علي ما بجيب الخُضر قط
************ ولا كلام الحلق والخثمطه
[FONT="]العقد الثاني من القرن العشرين (أي ما بين1820– 1920م تقريباً) كما يستنتج من بعض الأحداث التي عاصرها وذكرها في شعره كدخول الأتراك إلى ردمان والدولة القعيطية وغيرها، وحسب ما يقدر ذلك أحفاده استناداً إلى وثائق بحوزتهم، وامتد به العمر إلى قرابة مائة عام، وقد ذكر في قصيدة له بأنه قد بلغ التسعين عاماً، ولا شك أنه عاش بعدها سنوات عدة :[/FONT]
[FONT="]ولي بالعمر تسعين ماشي بها نزول[/FONT]
[FONT="] بسَوِّي على رأسي فتيله ودسمله[/FONT]
[FONT="]قضى جل حياته المديدة في مسقط رأسه "السَّائلة" إحدى القرى المنتشرة على ضفاف وادي ذي ناخب الشهير، بيد أنه قبلياً لا ينتمي إلى مكتب الناخبي، بل إلى مكتب اليزيدي، والمكتبان من مكاتب يافع السفلى الخمسة إلى جانب مكاتب يهر، كلد، السعدي . ويشير إلى ذلك في إحدى قصائده التي يفخر فيها بنفسه وبحسبه ويذكر فيها قصره المنيع المسمى ( قرن العَلي) بقوله:[/FONT]
[FONT="]
[/FONT]
معي من العُرف من جدّي ومن خالي
************ صُبِّةْ يُزَادَه وخالي ثالث الدوله
حليت قَرْن العَلي بالشّامخ العالي
************ ما بين خمسه مكاتب به تقلاّله
ساعه يزيدي وساعه ناخبي غالي
************ وساعة ابنقشط المخموس من جا له
ووادي ذي ناخب أحد أهم أودية يافع التي تشتهر بزراعة البُن اليافعي الشهير، وقد أورد ذكره الهمداني( 1) في كتابه "صفة جزيرة العرب" عند تحديده أرض سرو حِمْيَر وأوديته ومنها العر وثمر وحبه وعله وحطيب ويهر وذو ناخب وذو ثاوب وشعب وعر ميحان وسلب والعرقة ومدورة والمجزعة وتيم. وفي هذا الواد الخصيب، بين اخضرار العشب وخرير المياه وتفتح أزهار البن وأشجار السّدر (العلب) نشأ وعاش صالح سند، وانبعثت روحه الشعرية، ومن الجبال الشاهقة المطلة على الوادي استلهم الصلابة والحكمة والسمو. وفي ظل النظام القبلي وحياة العزلة والفتن أخذ ينادي بشعره الرَّصين إلى قيم الخير والتسامح والحض على العلم ومكارم الأخلاق والصدق وغيرها من القيم النبيلة، ونجح بإرسال تلك الومضات التي لخصت متطلبات جوانب الحياة في عصره. لم يحصل صالح سند على قسط من التعليم، فالحديث عن التعليم في عصره ضرب من الخيال، وكان التعليم السائد حينها يقتصر على الكتاتيب (المعلامة) وأقصى ما يحصل عليه المرء فيها هو فك رموز القراءة والكتابة وقراءة القرآن الكريم، ويتضح من شعره أنه تعلم في هذه الكتاتيب ونشأ نشأة دينية وتشرب حلاوة الإيمان وكان أميناً في بث أفكاره الدينية ذات المنحى الصوفي، وربما كان ضمن الحلقات التي كانت تعرف بـ (أهل الحقيقة)، كما نجد تأكيداً لذلك في قوله:
مَوْلى حَقيقه ومَوْلى دين ما يُشْتَم
************ والدّار ما يستقيم الاَّ بالأركاني
وفي شعره نجد التأمل ومناجاة الله والغزل العف على مذهب أهل العشق الإلهي، الذين يتمثلون جمال الله في خلقه، ويعبرون عن حبهم إياه بالرمز الموحي . ومن الشيوخ الذين تأثر بهم آل الشيخ أبوبكر بن سالم (مولى عينات-حضرموت) الذين كان لهم تأثيراً روحياً كبير في يافع( 2), والشيخ عبدالله عاطف الخلاقي، كما يتضح من قوله:
وقلت يا شيخ يا بوبكر بن سالم
************ واهل الكرامات والشارات والبرهان
والشيخ عبدالله انّه بحر يتلاطم
************ يبيت بالجرف هو والوحش بالخلوان
[FONT="]ويبدو تأثره الكبير بالشيخ عبدالله عاطف، والأرجح أنه كان شيخه وتتلمذ على يديه، وقد توجه إليه في عدد من قصائده، وفيها يعترف بعلمه وفضله وتقواه وذكر بعض كراماته التي يعتقد بها أتباعه:[/FONT]
للشيخ عبدالله البحر الأوط
************ بحر الجواهر وبحر الشوحطه
سلام لك ألف يا بحراَ أوط
************ يا بحر حنّان من جاء يقمطه
من كذّب الشيخ بالذنب احتبط
************ والله من عامله ما يحبطه
في كل حيناً يشط الأرض شط
************ أسرع من الطير لا قد شوطه ج
وله من الروم من خطاً بخط
************ وكل ما جاه خط اِبيقمطه
أو قوله في قصيدة أخرى توجه بها إلى الشيخ عبدالله عاطف:
وبعد يا مُرسلي شد السفر عاني
************ وشل ذا الخط من ذي شرَّف اقواله
قرية خُلاقه وخُص الشيخ بالغالي
************ بن عاطف الجيد ما حد ماثل امثاله
لا سار لا الهند والاّ لا خُريساني
************ خَذْ بالطُرق يوم للسيره ترحاله
ويوم ثاني رجع وانّه بلوطاني
************ ولا يخابر تقول الناس ما قاله
[FONT="]وللشاعر صالح سند أشعار كثيرة، متناثرة هنا وهناك، اكتسب معظمها صفة الشيوع والانتشار بشكل واسع في يافع، وأصبحت أكثر دوراناً على ألسنة الناس وأكثر تأثيراً في نفوسهم حيث يحفظون أبياته الحكمية ويذكرونها أثناء الحديث للاستشهاد بها وتقوية الرأي، لأنها لا تفقد معناها بمرور الأيام وتقادم الزمن لاشتمالها على الحكمة والنصائح والمواعظ الصالحة لكل زمان ومكان، إذ تحتشد مكونات قصائده بالحكمة, بل أن البيت الشعري لديه حكمة لذاتها، موزونة ومقفاة، مقتفياً في هذا السياق حكمة يحيى عمر اليافعي "أبو معجب"، كما يفصح هو عن ذلك، دون تأثره باتجاهه الغزلي الذي طغى على شعره :
[/FONT]
صالح سند قال لا انويت البناء قايس
************ قبل النّدم يا الذي تقطع بلا مقياس
من الخشب لا يقع زايد ولا ناقص
************ ما عاد تسكي تعدّل ما قُطِع بالفاس
يا صاحب العقل سوّس في صفا يابس
************ من المطر لا يجي وانّه وصل عالساسج
لا مات يحيى عمر صالح سند جالس
************ الكأس بالرابعه والرابعه بالكاس
[FONT="] إن قصائد الحكمة والوصايا والنصح والمواعظ شائعة في الشعر الشعبي اليافعي خاصة، واليمني عامة, وهي خلاصة لتجارب متراكمة ومختزنة في الوجدان الشعبي طوال الأجيال المتعاقبة عبر القرون وهي تعد تلخيصاً صادقاً وأميناً لمعارف وخبرات شعبية مختلفة، وكثير منها يتفق مع مأثور الحكم والأمثال الشعبية الشائعة . ويعتبر صالح سند مع الشعراء عبدالله ناصر بن سالم الشيخ المطري وسالم علي عمر المحبوش وحسين محسن السناني ومحمد سالم المحبوش الخلاقي وموسى أحمد الخضيري وعلي محمد بن شيخان وعبدالقوي احمد السعدي وناصر عمر بن عاطف جابر وصالح أحمد بن حوتب الكلدي ومحسن حسين بن شيهون وغيرهم أبرز شعراء هذا اللون من الشعر، وسار ولا زال على دربهم كثير من الشعراء المعاصرين .[/FONT]
[FONT="]وإلى جانب قصائد الحكمة والنصح طرق الشاعر قضايا اجتماعية وسياسية مختلفة كانت تؤرق بال الناس في زمنه, فقد توجه إلى الإصلاح الاجتماعي والدعوة إلى التعليم ومجالس العلم السائد حينها ومحاربة الجهل ونبذ الفتن. ولم تغب السياسة عن شعره فقد أشار إلى سيطرة الأترك على منطقة ردمان، وأبدى تخوفه من أن تدخل المشرق (يافع وما جاورها) تحت سيطرة الأتراك, وحث على المقاومة إذا لزم الأمر. ويلاحظ في هذه القصيدة اعتزازه بيافع وبمناعتها من أي سيطرة للترك أو الإنجليز: [/FONT]
وهذا الزمان أظهر وفي الوقت حاصلي
************ من الترك ذي قالوا بردمان حلّقه
وخلاّ اليمن وأهله حجار ابتراقلي
************ ويقطع على الإسلام قطعه مفرّقه
لعا يرجع المشرق يمن بالتماثلي
************ ويخشى عليهم من حديث المساوقه
ويا يافع الثقلين كلاً يقاتلي
************ وحيزوا الطوارف من معه قَطْع يفتقه
ومعروف أن التدخل التركي في جنوب اليمن قد زاد بعد إعادة احتلال الأتراك لشمال اليمن في عام 1872م، وسعوا إلى مد سيطرتهم على مناطق جنوب اليمن، باسم الدين الإسلامي. وفي قصيدة أخرى يذكر أنه حلم أن الإنجليز (السركال) يطوفون الأرض بقواتهم من الرماة والخيالة وأنهم يتجهون بأنظارهم إلى ديارنا، خاصة بعد أن بلغ إلى علمه أنهم قد تغلبوا على الترك. وربما كان يشير بذلك إلى انكسار الدولة العثمانية، التي انهزمت بعد الحرب العالمية الأولى، وصعود نجم الأمبراطورية البريطانية، التي كانت تحتل الشطر الجنوبي وتسعى لإيجاد موطئ قدم لها في يافع :
حلمت وانّه يطُوف الأرض سِرْكَالي
************ معه عساكر بهم رامي وخيّاله
وانّه مُوَجَّه بقومه لا قُدا داري
************ وانا تميَّلت لا اقتل بالتغفَّاله
وانهُم يقولون قد هو راس لدقالي
************ خَذْ دولة الترك ما حد ماثل أمثاله
إن شكل القصيدة لدى شاعرنا هو الشكل التقليدي المتبع لدى معظم شعراء عصره، فمقدمة القصيدة أو براعة الاستهلال تبدأ بذكر الله سبحانه وتعالى والدعاء إليه والاستعاذة به من الشيطان الرجيم أو ذكر قدرته وجبروته أو عطفه ورحمته والشكر له على نعمه والتوكل عليه أو استحضار بركات الرسل والأنبياء، ثم الصلاة والسلام على النبي الكريم وآله وصحابته. وبالعودة إلى مطلع قصائده نجده يستهلها بـ "كُرَيْمَان يا بالجود" أو "يا الله" أو " نبدع بك" كقوله:
- كريمان يا بالجود ياخير من خلق
- كريمان يا بالجود يا خير من حرس
- ونبدع بك ادعي ليك يا واحداً اَحد
- يالله يا معتلي بأعلى مَحَطْ
[FONT="]وهذا التقليد الفني تعارف عليه الشعراء الشعبيين والتزموا به وألفه الناس كمفتتح للقصيدة, وليس هناك عدد محدد لمثل هذه الأبيات؛ وهي عند شاعرنا تتراوح بين الخمسة والعشرة في كل قصيدة من قصائده، مستقلة عما يأتي بعدها . ثم تأتي بعد ذلك البداية الحقيقية للقصيدة، التي يمكن أن تقرأ منفصلة عن الدعاء في مطلعها دون أن يؤثر ذلك على بنيتها أو مضمونها، وهو ما نجده لدى بعض المطربين الشعبيين الذين يؤدون بعض القصائد ويستثنون منها تلك المقدمة بالدخول مباشرة في مضمون القصيدة، ربما بغية الاختصار، خاصة حين تكون هذه الأبيات كثيرة.[/FONT]
[FONT="]و تبدأ القصيدة فعلياً -بعد الاستهلال والدعاء- حيث يجهر الشاعر بالتعريف بنفسه من خلال ذكر اسمه أو كنيته ,وهو تقليد متبع لدى من سبقه أو جاء بعده من الشعراء الشعبيين, ربما لتخليد حقهم الأدبي في نتاجهم الشعري، حتى لا ينسب لغيرهم، خاصة وأنه كان ينتقل وينتشر شفاهة لانعدام التدوين واعتماد الناس في حفظه وتداوله على الذاكرة، ومن ذلك قولهم: يحيى عمر قال.. يقول أبو معجب.. اليافعي قال.. يقول أبو لوزه.. الخالدي قال.. يقول بن ناصر.. يقول الفتى المحبوش..الخ. ولم يشذ صالح سند عن هذه القاعدة المتعبة والمألوفة، فهو يذكر اسمه مقترناً باسم والده، لشهرته وموسيقاه في مفتتح وصاياه: [/FONT]
------------------------
(1) انظر كتابه: صفة جزيرة العرب. مكتبة الإرشاد. صنعاء. ص 172
(2) جاء في "هدية الزمن " للأمير أحمد بن فضل العبدلي : يحكى أن العلامة ولي الله الشيخ أبابكر بن سالم مولى عينات قبل أن تدركه الوفاة سنة 992هـ نصب العلامة الشيخ علي هرهرة مصلحاً ومرشداً دينياً في يافع العليا ثم لما مات الشيخ علي خلفه ابنه الصالح أحمد بن علي، ولما توفي أحمد بن علي خلفه ابنه الشيخ الصالح صالح بن أحمد .
[FONT="]
[/FONT]يتبع ,,
:angel: