![[IMG]](http://www.al-khulaqi.com/up/uploads/images/alkhulaqi-dc916ed09a.jpg)
تقديم ديوان الخالدي (دستور الهوى والفن)
يعد الغزل من أقدم وأكثر المواضيع التي طرقها الشعراء, والمرأة هي أنشودة الحب الدائمة التي يتغنى بها الشعراء في كل زمان ومكان, والغزل يعتبر من أغراض الشعر ذات الروعة والجاذبية، وهو من أكثر أغراض الشعر العربي مداولة منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحديث. بل إن الغزل يكاد يكون مقدمة ضرورية حتى في الأغراض الشعرية الأخرى كالمساجلات أو الفخر التي تستهل أحياناً بمقدمة غزلية رشيقة, ومثل هذه المقدمات الغزلية نجدها لدى كثير من شعراء الغزل في الأدب العربي على مر العصور .
وفي الأدب الشعبي اليمني فإن الغزل من المواضيع الأكثر تناولاً، وتعد المرأة محور اهتمام الشعراء وقد أبدعوا في وصف محاسنها، ومن أبرزهم الشاعر الفنان الشهير يحيى عمر اليافعي " أبو معجب " الذي غلب الغزل الرقيق على معظم أشعاره وأجاد في وصف المرأة. ورغم ظروف المجتمع القبلي اليافعي, في مراحل ما قبل الاستقلال, وانتشار الفتن والحروب القبلية وشيوع الجهل والتخلف, كما هو حال بقية مناطق اليمن, إلاّ أن الشعراء الشعبيين, وجدوا الفسحة والوقت لينظموا القصائد الغزلية أو العاطفية أو ما تعرف شعبياً بـ"القصائد الخضراء" للتنفيس عن مشاعرهم الإنسانية, وكان يشجعهم على ذلك تلقف الناس لمثل تلك القصائد وتفاعلهم معها وترديدها بأصوات المطربين الشعبيين, ولعل غزليات " أبو معجب" مثال ناصع لما نقول.
وعلى النقيض من ذلك نجد بعض الشعراء الشعبيين غير مكترثين بالغزل في أشعارهم, وهذا يرجع أساساً إما لمكانتهم الاجتماعية أو الدينية كالمشايخ والسلاطين ورجال الدين , ومن أولئك الشعراء, على سبيل المثال الشاعر الشيخ راجح بن هيثم بن سبعة شيخ مكتب يهر- أحد مكاتب يافع العشرة- الذي غلبت على أشعاره قصائد الفخر والمروءة والشجاعة والنزعة القبيلة والوطنية, أو الشاعر صالح سند الذي كرس شعره لموضوعات اجتماعية ووجدانية مشبعة بالغزل الصوفي (1). وقد يلجأ البعض إلى التخفي تحت لقب آخر,كقناع يخفي شخصياتهم الحقيقية, كما هو الحال مع الشاعر الغزلي الشهير "بن زامل" وهو كنية تخفى بها الشاعر أحمد ناصر بن هرهرة الذي ينتمي إلى أسرة سلاطين آل هرهرة, التي ترى في طرق الموضوعات الغزلية انتقاصاً لمكانتها الاجتماعية وترفاً لا لزوم له. ويمكن القول أن الغزل في الشعر الشعبي اليافعي هو امتداد لمدرسة يحيى عمر اليافعي "أبو معجب" الشهيرة في فنون الغزل التقليدي اليمني.
ويعد شائف محمد الخالدي "أبو لوزة", الذي توفي في 31ديسمبر1998م, أحد أشهر أعلام الشعر الشعبي اليمني على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين, فقد امتلك موهبة شعرية فذة وأبدع في مختلف الأغراض وطرق مختلف المواضيع ونظم وأجاد في مختلف فنون الشعر الشعبي,الزوامل ,المساجلات, القصائد, فقد عشق الشعر وكرس له معظم وقته وليس في حياته تجربة اكبر من الشعر, حتى يمكننا القول أن شعره هو حياته وأن حياته هي شعره, وكان الغزل من أكثر الموضوعات لديه, بل إن غزلياته المبكرة – التي فقد معظمها- قد مهدت له طريق الشهرة اللاحقة. ولا شك أنه بدأ حياته شاعراً غزلياً وأن الغزل من أوَّل الموضوعات التي طرقها منذ سنوات شبابه المبكرة. ولم يكف" أبو لوزة" عن نظم غزلياته طوال حياته وحتى أواخر عمره, كما نلمس ذلك من تتبع قصائده, والتي نجده يؤرخ لبعضها خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته, أما قصائده المبكرة فنستشف تواريخها من مضامينها أو من مفرداتها التي تنبع من البيئة التي عاشها في طفولته وشبابه في يافع.
كما نجد أن كثيراً من مساجلاته وقصائده ذات الأغراض الأخرى لا تخلو في كثير منها من مقدمات غزلية يستهل بها قصائده, منها القصيرة والمتوسطة والطويلة , بل أن بعض هذه المقدمات تصل أحياناً إلى عشرة أبيات أو أكثر وتكاد أن تكون قصيدة لوحدها.
وأتذكر أنني منذ طفولتي وأنا أسمع قصائده العاطفية تتردد على ألسنة الكبار والصغار بكنيته الشهيرة "أبو لوزة" وكان أكثر الشعراء الشعبيين حضوراً في الأفراح والأعياد بما يصاحبها من ألوان الرقص والشعر والغناء, وأجزم أنه أبدع آلاف الأبيات الغزلية التي كان يرتجلها في ملاعب صفوف رقصات البال النسائية المصحوبة بالغناء, ولكن مثل هذه الأبيات لم تدون ولم تحتفظ بها ذاكرة الناس فذهبت أدراج الرياح,للأسف الشديد, وهي لو دونت لشكلت ديواناً كبيراً من أرق الشعر الغزلي وأعذبه. كما اشتهر بغزارة إنتاجه وجودته وفي تلقف المطربين الشعبيين لقصائده وتحويلها إلى غنائيات سرعان ما تنتشر بين جمهور المعجبين الواسع. ورغم كثرة قصائده الغزلية الكثيرة, فأنها لم تنشر حتى الآن مجتمعة في ديوان, وها نحن نقدمها في هذا الديوان, الذي يشمل مُعظم غزلياته التي تيسر لنا جمعها من سجلاته الخاصة ومن أشرطة كاسيت لعدد من المطربين الشعبيين, وقد وجدنا أن كثيراً من غنائياته التي تعود إلى مراحل ما قبل السبعينات غير مدونة, ناهيك أن الكثير مما قاله في بداياته المبكرة لم يصل إلينا. وقد حرصنا على تقديم هذه الغنائيات حسب أبجدية قوافيها ليسهل لنا وللمهتم متابعة هذه القصائد, ومعرفة ما لم نتمكن من إدراجه في هذه الطبعة, والسعي للحصول عليها بمساعدة المهتمين والمعجبين بشاعرنا الكبير "أبو لوزة" ممن تحفظ ذاكرتهم مثل هذه الأغاني أو في أشرطة التسجيل القديمة بأصوات أكثر من مطرب شعبي, مثل سالم سعيد البارعي وعلي سالم بن طويرق وصالح سالم بن عطاف والسيد محضار وغيرهم.
لقد اشتهر الخالدي أكثر في العقدين الأخيرين من حياته بمساجلاته الشعرية الساخنة والحادة مع حشد من ألمع فرسان الشعبي اليمني, حتى كاد البعض يعتقد أنه مقلا في الموضوعات العاطفية الغزلية, وهو ما يخالف الواقع الذي نثبته من خلال تقديم هذا الديوان الزاخر بأرق وأعذب قصائد الغزل, التي كان لها رواجاً- فاق شهرة المساجلات- في الفترات التي تعود إلى ما قبل الاستقلال والسنوات اللاحقة. وأجزم أنه من أكثر الشعراء الشعبيين المعاصرين غزارة في هذا الباب, وأكثر من غنى له المطربون الشعبيون مقارنة بمعاصريه من الشعراء.
نظرة عامة في غزلياته
إن " أبو لوزة" في شعره بشكل عام, وفي غزلياته بشكل خاص, مليح الشعر, رقيق الطبع, حسن المعاني, وتفصح قصائده العاطفية عن مكنون نفسه, وتيسر لنا التعرف على فيض مشاعره, وهي تنبض بالصدق وتتألق بالفن الجميل ومزاوجة الألفاظ بالمعاني وارتعاش القوافي في تناغم موسيقي بديع يشنف الأذن ويطرب النفس, ولا غرابة في ذلك فمعظم غنائياته نظمت خصيصاً لتغنى وتردد بألحان شعبية أصيلة, وقد يكون الشاعر نسج بعضها على نغمة موسيقية أو لحن معين أسره بإيقاعه الجميل أو تأثر بالشائع والسائد من الألحان الشعبية أو التراثية التي يطرب لها عامة الناس, وهذا لا ينطبق فقط على غزلياته بل وعلى كثير من قصائده الوطنية والسياسية قبل وبعد الاستقلال, ومن يقرأ أو يستمع إلى غزلياته يجد نفسه مأسوراً بلغته السلسة الممتعة :
الخالدي قال وا مولى الجَعِيْد الخُماسي **** بس الجفا بَسْ بَسْ
ويلك من الله كم لي بذكُرَكْ وأنت ناسي**** أحَّوْه منَّك وحََسْ
كم لي وأنا صيح من هجرك وكم ذي بقاسي**** من باطلك والحَمَسْ
وللشاعر مفهومه الخاص في تحديد مفهوم الحب وماهيته, (انظر قصيدتيه" للحب عندي كتاب" و" دستور الهوى والفن") فقد لخص فيهما تجاربه وتجارب غيره من المحبين.فالحب كما حدده ليس بضاعة تباع وتشترى ولا دعاية يُروج لها عُشاق الشارع ممن يترصدون الفاتنات, و إنما هو شعور خاص يسكن قلوب أهل الهوى, ولعل لكل إنسان مفهومه الخاص عن الحب وأسراره قد لا نجده عند معظم الناس, وقد أبدع "أبو لوزه" في هذا الغرض ونجد في غزلياته المعنى الجميل و الوصف البديع و حسن السبك وانتقاء الألفاظ المعبرة.
يقول ميخائيل نعيمة: "من استيقظت عواطفه وأفكاره وتمكن من أن يلفظها بعبارة جميلة التركيب, موسيقية الرنة,كان شاعراً, إذ أن العواطف والأفكار هي كل ما نعرفه من مظاهر النفس, فالشعر إذن هو لغة النفس, والشاعر هو ترجمان النفس". وأشعار الخالدي بشكل عام, وعلى الأخص غزلياته, هي من ذلك النوع الذي ما أن تقرأه أو تستمع إليه مرة واحدة حتى تستأنس له وتجد نفسك مدفوعاً بتلقائية للعودة إليه مرات ومرات, تنهل منه دون ارتواء وترتشف منه ارتشافة العطشان وتطيب نفسك لسحر معانيه وجمال لفظه ورنين موسيقاه, وتشعر وأنت تقرأه وكأنه ترجمان نفسك وأحاسيسك العاطفية. ولهذا راجت غزليات "أبو لوزة" منذ سنوات شبابه وكان الشاعر الغزلي المتألق الذي يردد الجميع قصائده ويطربون لسماعها نساءً ورجالاً.
صورة المرأة في شعره
لم ينفرد الخالدي بوصف جسد المرأة , بل اتبع طريق أسلافه القدامي , الذين رسموا صورة حسية لأدق تفاصيل جسد المرأة ووصف مفاتنها وجمالها الأنثوي الظاهر. وغزل الخالدي مألوف, حسي في وصف مفاتن ومحاسن المرأة, عذري أو عفيف, لا يدل على أنه شغف بامرأة بعينها, لأن المجتمع القبلي الذي نشأ فيه والتقاليد المحافظة لا تجيز ذلك, وهو يراعي هذه القيم ولا يحاول المساس بها , لذلك فأن الشاعر لا يتعرض لاسم حبيبة معينة, ويكتفي بذكر صفاتها أو الإشارة إليها بالكنايات المجازية أو بضمير المخاطب أو الغائب, أو التلميح من خلال موطنها, الذي هو في الغالب موطن الشاعر ذاته, وقد يذكر مواطن محددة , كيهر , حمرة , جبل لمطور, فلاحة , حمام شرعة ... الخ , وحين يذكر هذه المواطن لا يذكر اسما معينا,بل أنه يتغنى بجمال النساء بشكل عام في تلك المواطن, وقد يقدم وصفاً للمرأة من نسيج خياله. وليس لحبه حدود معينه, فهو يعشق الجمال أينما وقعت عليه عيناه, ولا يستبعد أن بعض هذه الغزليات لم تخل من تجارب الحب الصادق التي مر بها الشاعر, لكنه في معظمها سار على مذهب شعراء الغزل الذين درجوا عليه في وصف الحبيبة من بنات أفكارهم.
إن شعره الغزلي يذوب رقة ويميل إلى العفة ويفيض بالعواطف الصادقة, ويرجع ذلك إلى البيئة اليافعية وطبيعتها الساحرة التي أثرت على شعره, ثم البيئة العدنية التي يبدو تأثيرها واضحاً. فغزلياته في مجملها مستوحاة من هاتين البيئتين, وهو لا ينحرف عن العفة والشرف والخلق الرفيع. ولا بد أن نعرف أن المرأة في المجتمع اليافعي إلى ما قبل عقدين من الزمن كانت تتمتع بحرية كبيرة في الحركة ومشاركة الرجل في كثير من الأعمال وفي الأفراح العامة, حيث تظهر بكامل زينتها في الأعياد والزواج وتشارك في الرقص والغناء في مسارح مكشوفة, وكان التغني بجمال النساء ظاهرة مألوفة لدى الشعراء, ويتقبلها المجتمع بعين الرضا, ومن هنا نفهم ملامح الصور الواقعية التي يقدمها الشاعر للمرأة. ففي مطلع حياته الإبداعية المبكرة في شبابه نجد في شعره صورة المرأة بزيها التقليدي ومساحيق الزينة التي تزين بها وجهها كما في قصيدة ( يا طارح الندَّه ) وتصويره لجمال زينة الوجه, كما في قوله ( ذريره فوق خدَّه) والندة والذريرة من مساحيق الزينة, أو وصفه لمسحات البوردة وما تضعه المرأة من مسحوق (الحُسن) الأحمر .
إن غزليات "أبو لوزة" تعكس ثقافته المستمدة من محيطه القبلي"اليافعي" ثم المحيط الوطني الأوسع, التي كانت تلخصه بكثافة مدينة عدن منذ انتقاله إليها في ربيع شبابه وارتباطه الحميم بها, فقد كان لها الدور الأكبر في تطور ونمو ثقافته ونسيج معارفه وفي نضوج وعيه الوطني وتنوع روافد ثقافته من خلال تعرفه واطلاعه على نماذج من الأدب العربي وتأثره الواضح بتجارب شعراء الغزل, الذين لم تخل تجارب حبهم من الجوانب الحسية, ونجده يستشهد بتجاربهم أو يشبه حالته بحالتهم في أكثر من قصيدة كقوله:
خلّيِتني مثل قيس العامري مجنون *** في حُبْ ليلى وليلى غير مجنونه
سَلَبت عقلي برمشات السَّبَل والنون ***وأعيان كحلاء وقامه حلو موزونه
كما تأثر" أبو لوزة" بأستاذه يحيى عمر وسار على دربه في كثير من غزلياته وتأثر به دون شك, خاصة وأن الناس في محيطة يحفظون غنائيات يحيى عمر ويرددونها باستمرار, وقد حفظ الخالدي الكثير من غزليات يحيى عمر, ودونها بين مخطوطاته بخط يده, وتأثر بها ونسج على منوالها بعض قصائده, وتكاد قصائده – كقصائد يحيى عمر- لا تخلو من وصف المرأة ومفاتنها, بل نجد في بعض غزلياته مفردات وصور وصفية ترسم فيها خطى "أبو معجب",لحناً ومفردات وقوافي, ففي قصيدته " وا عين انعسي" التي تعود إلى العام 1961م. نجد هنا تقارباً كثيراً مع قصيدة يحيى عمر " غزال اليفرسي" التي يقول فيها:
والجَعْدْ لَسْوَدْ على أمتانه سِلُوس *** مُشَرْكَسْ اَرْكَسْ عَذَبْ متدامسي
وحاجبه مثل ما ضوء الشموس *** والبدر يمسي عليها حارسي
وأعيان حمراء كما جَمْر اللَّهُوس*** وحَوْمهن بالكُبيدة يلْعَسِي
والأنف خنجر لقطَّاع الروؤس *** بيَدْ شاجع ذكي متقنسي
ومَبْسَمه مثلما برق الغلُوس *** سقوا بها أطيَان كانت يابسي
وأسنان بيضاء وقايسهن قيُوس *** سُبحان من للأمور مُقايسي
----------------------------
(1) انظر: شاعر الحكمة.. صالح سند"خير من نشد" إعداد: د.علي صالح الخلاقي, مركز عبادي للدراسات والنشر,صنعاء,2006م.