جاري تحميل محرك البحث

اهلاً وسهلاً بك في مجلس الخلاقي!
لكي تتمكن من المشاركه يجب بان تكون عضو معنا تسجيل الدخول بإستخدام الفيسبوك

تـسـجـيـل الـدخـول

|| للتسجيل معنا

شل العجب ..شل الدان/طبعة ثالثة تحمل الجديد

موضوع في 'د.علي صالح الخلاقي' بواسطة د-علي صالح الخلاقي, يناير 28, 2013.

    • :: الأعضاء ::

    د-علي صالح الخلاقي

    • المستوى: 1
    تاريخ الإنضمام:
    إبريل 28, 2012
    عدد المشاركات:
    36
    عدد المعجبين:
    13
    جديد يحيى عمر اليافعي (ابو معجب) ..شل العجب ..شل الدان
    ___________________________________________
    صدرت مؤخرا الطبعة الثالثة من ديوان الشاعر الفنان الشهير يحيى عمر اليافعي (ابو معجب) في حلة قشيبة تتصدر الغلاف لوحة ليحيى عمر اليافعي بريشة الفنان التشكيلي المبدع عبدالقادر السعدي.. ولعل ما يميز هذه الطبعة أيضاً أنها تضم الجديد الذي يُنشر لأول مرة مما حصلنا عليه من مخطوطة تاريخية نادرة هي الأقدم والأقرب إلى عصر يحيى عمر مقارنة بالمخطوطات السابقة, إذ يعود تاريخها إلى سنة 1256هجرية, وهي برسم مالكها وكاتبها وقارئها الواثق بالواحد المجيد عابد ابن سعيد ابن سهيل ابن علي ابن عبدالله ابن حسن ابن علي ابن حسن ابن محمد ابن عيسى ابن حسين العزعزي السلماني, وهي تشتمل على أكثر من مائة ورقة فُقد بعضها, وتحتوي على موضوعات تاريخية عن منطقة العزاعز وقصص تراثية, كما تضم قصائد لعدد من الشعراء يتصدرهم الشاعر يحيى عمر, وقد أوردت قصائده الجديدة التي لم تُنشر من قبل في مطلع الديوان, كما أوردت بعض القصائد التي نُشرت من قبل بصيغتها التي وردت في هذه المخطوطة وهو ما أوضحته في الهوامش.

    وفيما يلي أقدم الدراسة التي تصدرت الديوان:



    دراسة عن حياة الشاعر والفنان
    _____________________
    يحيى عمر اليافعي وأشعاره
    ____________________
    بقلم:د.علي صالح الخلاقي

    تمهيد
    يحيى عمر اليافعي "أبو معجب", أعجوبة زمانه في الشعر والتلحين والغناء وهامة فنية وشعرية كبيرة تثير العجب والإعجاب منذ أكثر من ثلاثة قرون لما تركه من أشعار وأغانٍ وألحان خالدة ما تزال تملأ الآفاق, تحيا وتعيش متجددة متألقة، دون أن تفقد رونقها وطلاوتها مع تقادم الزمن وكأنها بنت اللحظة الحاضرة. وباسم هذا الفنان الملهم ارتبط ذيوع وانتشار الأغنية اليافعية, فهو حامل لواءها ومجدد وصانع معظم ألحانها وإيقاعاتها المتميزة التي خرج بها من نطاق المحلية الضيق إلى فضاءات وطنية وعربية أرحب وأصبحت بفضله من الألوان الغنائية المميزة, وبها يتغنى كلّ العرب من الخليج إلى المحيط. وإذا ما أردنا أن نتحدث عن طابع وخصوصية الأغاني اليافعية، فيمكن ببساطة أن نلغي كلمة (يافع) ونتحدث عن اتجاه (يحيى عمر) في الغناء اليافعي لأنه لم يكن شاعراً فحسب وإنما أيضاً ملحناً وعازفاً ومطرباً. إنه رائد صوت الدان اليافعي الأصيل, ومن هذا الينبوع استمد إيقاعات روائع أشعاره وألحانه الخالدة، منذ أن كان يقف في مطلع شبابه شاعراً مجيداً في حلبات وصفوف ألعاب الدَّان النسائية التي كانت النساء تستهلها بترديد مَوَّال الدَّان( ألا يا دان دانه لدانه دان يا دان دان) كإيذان منهن بطلب الشعراء لدخول حلبة (الدَّان).. ثم أليس يحيى عمر هو القائل:
    بعد الآن , يحيى عمر شل الدّان في الفتان , هندي ملك هندستان
    وقوله في قصيدة أخرى:
    ونمسي على السَّمْرَات في كُلّ ليلةٍ
    ونمسي نرد الدَّان لا مَطْلع الغِبُوش

    ومع الشهرة الكبيرة لهذا الشاعر الغنائي الفذ والملحن والمطرب الملهم وانتشار أغانيه وألحانه في أرجاء بلدان الجزيرة العربية والخليج والهند حيث عاش حياته سفيراً فنياً متجولاً تسبقه شهرته وموهبته التي صاغت أروع الكلمات وأشجى الألحان الخالدة , فقد ظل إلى عهد قريب أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة, لأن شخصيته وشعره لم يحظيا بالاهتمام الرسمي من قبل القائمين على الشأن الثقافي والفني في بلادنا, وحري بنا أن نكرمه ونقيم له المهرجانات السنوية كأقل وفاء لأمثاله.
    وهذا الكتاب هو امتداد لجهود من سعوا لنشر غنائياته وأضاءوا جوانب من حياته، أو أبحروا في أشعاره، إذ اقتفيت أثرهم مجتهداً في إلقاء المزيد من الأضواء على جوانب من حياة وإبداع هذا الفنان الشاعر، وإيضاح الغموض أو اللبس أو التحريف الذي أحاط بجوانب من حياته أو أشعاره وتصويب الأخطاء حيث وجدت، وفق المتاح من المصادر والمعلومات التي تتبعتها والمخطوطات التي حصلت عليها وفي ضوء دراسة أشعاره التي تقود إلى بعض خفايا وأسرار حياته.
    ولعل من محاسن الصدف أن كل طبعة جديدة تحمل الجديد من تراث هذا الشاعر الغنائي الفذ, وهو ما يثلج صدورنا ويعطينا الأمل في الحصول على المزيد من تراثه الذي ما يزال مجهولاً.. ولعل ما يميز هذه الطبعة أيضاً أنها تضم الجديد الذي يُنشر لأول مرة مما حصلنا عليه من مخطوطة تاريخية نادرة هي الأقدم والأقرب إلى عصر يحيى عمر مقارنة بالمخطوطات السابقة, إذ يعود تاريخها إلى سنة 1256هجرية, وهي برسم مالكها وكاتبها وقارئها الواثق بالواحد المجيد عابد ابن سعيد ابن سهيل ابن علي ابن عبدالله ابن حسن ابن علي ابن حسن ابن محمد ابن عيسى ابن حسين العزعزي السلماني, وهي تشتمل على أكثر من مائة ورقة فُقد بعضها, وتحتوي على موضوعات تاريخية عن منطقة العزاعز وقصص تراثية, كما تضم قصائد لعدد من الشعراء يتصدرهم الشاعر يحيى عمر, وقد أوردت قصائده الجديدة التي لم تُنشر من قبل في مطلع الديوان, كما أوردت بعض القصائد التي نُشرت من قبل بصيغتها التي وردت في هذه المخطوطة وهو ما أوضحته في الهوامش.
    مقدمة حول الغناء اليافعي
    ليس لدينا ما يشير إلى واقع الغناء والطرب في عصر يحيى عمر، ليس فقط على مستوى يافع – مسقط رأس الشاعر - بل وفي مختلف مناطق اليمن عموماً، بيد أن الغناء اليافعي في ذلك العهد وحتى إلى ما قبل أربعة عقود مضت قد أمتاز بالطابع الفلكلوري التقليدي، الضارب في القدم، المستند على إيقاعات متناغمة مع الرقصات والألعاب الشعبية التي يؤديها الرجال والنساء والأطفال، ويعبَّرون من خلالها عن أفراحهم وأتراحهم، سواء في الأعياد الدينية أو حفلات الزفاف أو تلك المصاحبة لهم أثناء تأدية أعمالهم المختلفة وفي الطقوس الحياتية اليومية المتعددة. فالغناء يرافق أعمال البناء والعمل الزراعي، وما يزال لكل موسم زراعي أغانيه المميزة التي يؤديها الرجال والنساء بصورة مشترك في كل موسم زراعي، كما أن للرعاة أغانيهم ومواويلهم الخاصة، وهناك الزوامل الحماسية التي تبث الشجاعة وتحض على القيم النبيلة في نفوس أبناء القبيلة في الحروب والمناسبات الاجتماعية الأخرى، وكذلك التراتيل والموشحات الدينية، وغناء وإنشاد القصائد في جلسات السمر أو الراحة بمصاحبة القرع على الطبول أو بمرافقة آلة ذات نغم إيقاعي. وهناك أغانٍ خاصة بالنساء تؤدى عند طحن الحبوب أو جلب الحطب أو الماء أو هدهدة الأطفال وتنويمهم، أو في حفلات الزفاف حيث يتدرج الغناء الذي تؤديه النسوة وتتنوع إيقاعاته في المراحل المتعددة لحفل الزفاف، كالهدان والزفة وإقامة صفوف خاصة للغناء المصحوب بحركات راقصة تردد خلالها الأبيات الشعرية التي يرتجلها الشعراء في حلبات الصفوف الدّان النسائية وغير ذلك. ولقد ظلت المرأة إلى ما قبل العقد الأخير من القرن العشرين لا تعرف الحجاب، تعمل في الأرض وتجلب الحطب والماء وتطحن الحبوب وتشارك في الأفراح والأعياد، حيث تؤدي الرقصات النسائية وتردد الأغاني المصاحبة لها سواء في المنازل أو في المهرجانات العامة أو الزيارات التي تقام في الساحات العامة المكشوفة.
    ظلت الأدوات الموسيقية التقليدية المصاحبة للرقص والغناء هي السائدة بأنواعها المختلفة التي يتم تصنيع بعضها أو أجزاء منها من خامات محلية كالطبل والطاسة والمَرْوَس والمَرْفَعْ والشُبَّابة (الناي) والمزمار والطار (الدف)، ورغم دخول بعض الآلات الموسيقية الحديثة، كالقنبوس الذي كان يعزف عليه الفنان الشاعر يحيى عمر وأخيراً العود والآلات المصاحبة الأخرى، إلاَّ أن الآلات التقليدية لم تفقد مكانتها حتى اليوم، ولا زالت شائعة الاستخدام في كثير من المناسبات.
    يقول محمد سعيد جرادة: "إن الأغنية اليافعية تكاد تكون معاصرة للأغنية الصنعانية، فهي إذن أقدم من الأغنية اللحجية والحضرمية. فقبل القمندان لم نسمع القصيدة اللحجية ومن أجل ذلك تواتر القول بأن القمندان هو صانع الأغنية اللحجية. وفي حضرموت خلط محمد جمعه خان بين الأغنية الهندية والأغنية الحضرمية حتى خلص الفن الخاص بالمنطقة على يد شيخ البار وغيره من الغنائيين المعاصرين الذين يمثل المحضار من بينهم في صنع الأغنية التي تحمل طابع حضرموت بسماتها وخصائصها الفنية الأصيلة. أقول هذا وأنا أعلم أن لكل من لحج وحضرموت وغيرهما من المناطق اليمنية تراثاً فولكلورياً يتمثل بالأغنية الخاصة بموسم الزراعة وحفلات الأعراس والأعياد وغيرها من المناسبات العامة. ولكن أقصد أن هذا التراث الفولكلوري كان محصوراً كلياً في منطقته لا يتعداها إلى ناحية أخرى من نواحي اليمن، ولم يبلغ من الشهرة والذيوع والانتشار ما بلغته الأغنية الصنعانية والأغنية اليافعية اللتان دارت كلماتهما وألحانهما على كل لسان بحيث لا تكاد تجهلهما أية ناحية من نواحي اليمن على وجه العموم"( ).
    وفي ذات المعنى كتب الأستاذ الفنان أحمد بن غوذل في مقال له نشر في صحيفة 14 أكتوبر يقول:" ظل الغناء القديم واعني به الغناء التقليدي والغناء الشعبي اليمني محتفظاً بطابعه ردحاً من الزمن ولقد كان للأغنية الصنعانية والأغنية اليافعية دوراً بارزاً. كما كان لها نصيب الأسد من مجمل الألوان الغنائية في الساحة اليمنية وخاصة صنعاء وعدن, حيث انتشر هذا اللون بين الأوساط الفنية والعامة، أما بالنسبة للون الغنائي الحضرمي واللون الغنائي اللحجي فلم يكونا شائعين ومسيطرين بالصورة التي كان عليها الغناء الصنعاني أو الغناء اليافعي بل كادا أن يكونا محصورين على مستوى لحج ونواحيها وحضرموت ونواحيها بالداخل والساحل.. وكانت الأغنية الصنعانية والأغنية اليافعية تتناقلان شفاهاً من جيل لآخر بلحنهما وكلماتهما"( ).
    وهكذا فأن الحديث عن تأثير الأغنية اليافعية، يعني في الأساس الحديث عن تلك الألحان التي صاغها وأبدعها وجددها في قالب فني مميز الشاعر والملحن المطرب الملهم يحيى عمر اليافعي, ومن خلال ألحانه وأغانيه انتشرت الأغنية اليافعية بإيقاعها المميز وشاعت في كثير من المناطق داخل اليمن وفي الجزيرة والخليج العربي. كتب أبوبكر أحمد عيسى في صحيفة (14 اكتوبر) يقول: "المتعارف عليه أن هناك ثلاثة ألوان في الغناء اليمني هي اللون الحضرمي والصنعاني واليافعي. ولماذا سُمّي هذا باللون الحضرمي والآخر صنعاني أو يافعي؟. إن الغناء هو أسلوب التعبير بشكل فني موسيقي يعكس نفسه على واقع الحياة للفنان أو المجتمع المنتمي إليه ذلك الفنان والموسيقى هي تركيب الألحان بزمن إيقاعي منظم، والإيقاع وحده يدخل في حياة الإنسان الاعتيادية. وإذا قلنا أن هناك لوناً حضرمياً فيجب أن تكون هناك خصائص معينة في التركيب اللحني والإيقاعي لهذا اللون وان أي شخص يسمع أغنية يدرك انتماءها بسرعة لهذا اللون أو ذاك. والغناء اليافعي فقد ابتدعه الشاعر يحيى عمر وما يميز هذا اللون هو الإيقاع لأنه لا مثيل له ويستخدم في زوامل أهل يافع وتلحن أشعارهم على نفس الإيقاع وتؤدى رقصاتهم عليه وأغنية " يحيى عمر قال قف يا زين "نموذج له، وقد انتقل الإيقاع إلى مناطق أخرى وغنى به فنانون شتى وظل اسمه بالإيقاع اليافعي"( ).
    أحد أعمدة الغناء اليمني ورائده في المهجر
    يعتبر يحيى عمر اليافعي وبحق أحد كبار أعمدة الأغنية اليمنية، الذين لم يخبو تأثيرهم حتى اليوم، حيث لا زال الناس يحفظون أشعاره الغزلية ويطربون لألحانه الشجية ويترنمون بأغانيه المميزة والكثيرة التي نسمعها بأصوات العديد من الفنانين اليمنيين وغير اليمنيين في الجزيرة والخليج. كتب الأديب عبدالرحمن طيب بعكر يقول( ):" الأغنية اليمنية منذ القرن الحادي عشر الهجري تمتاز عن مثيلاتها في الأقطار العربية بأنها الأفصح مفردة والأقوم عروضاً والأكثر احتشاماً إلى جانب التزامهم في الغالب بتطييبها بالثناء على المولى سبحانه والصلاة على النبي . ذلك أن كبار أعمدة الأغنية وآبائها كانوا من العلماء وأصحاب الذائقة اللطيفة والمقامات المنيفة، كيحيى عمر اليافعي وشعبان سليم وحيدر آغا وعلى صالح العماري والعنسي والآنسي".
    والفنان الشاعر يحيى عمر اليافعي صاحب مدرسة مميزة من أقدم مدارس الشعر والغناء الشعبي وعلماً أدبياً وفنياً مميزاً نهض بالأغنية اليافعية، شعراً ولحناً ومضموناَ، ورائداً لم يسبقه أحد في تحديث وتطوير ونشر الغناء على نطاق واسع في مختلف مناطق الجزيرة والخليج وفي المهجر الهندي. فقد ابتدع المعاني الجميلة وفتح أبواب الغزل وطرق موضوعات خرجت عن الرتابة المألوفة وأطال الوصف وأبدع في تصويره وادخل في غنائياته الحوار الثنائي "الديالوج" ، فسبق بذلك جيل العمالقة اللاحقين كالقمندان، مؤسس مدرسة "الغناء اللحجي" والشاعر حسين ابوبكر المحضار، المطور الفحل للأغنية الحضرمية. عن ذلك الدور الريادي المتميز ليحيى عمر يقول فضل النقيب: "لم أقرأ لأديب في القرن الثامن عشر مثل هذا الاختراق الذي تجرأ عليه يحيى عمر في بنية الشعر الغنائي لغة ومضامين وأوزاناً، ومن الأدلة على ذلك في ساحة الجزيرة والخليج أنه ما من مبدع من أحفاده قد استطاع أن يبزه أو يجاريه، ناهيك عن أن يسبقه حتى يومنا هذا، ولا يزالون عالة عليه في فنه الذي اختص به"( ).
    تغنى بأشعار وألحان يحيى عمر الكثير من الفنانين اليمنيين وفناني الجزيرة والخليج. فمن الفنانين اليمنيين نذكر: علي أبوبكر باشراحيل، عمر محفوظ غابة، إبراهيم محمد الماس، عوض عبدالله المسلمي، أحمد عوض الجراش, صالح عبد الله العنتري ، محمد سعيد مهدي، محمد صالح الحضرمي، محمد سالم بن شامخ، محمد مرشد ناجي، أبوبكر سالم بلفقيه، محمد حمود الحارثي, فيصل علوي, خليل محمد خليل، عبود الخواجه، هاشم هرهرة,السيد محضار, علي سالم بن طويرق, علي صالح يافعي،سالم سعيد البارعي, لولة حسين, حسين عبدالناصر السعدي, محسن علي بن مسعد الصلاحي, عبدالله محمد ناصر (أبو حمدي)، عبدالرحمن ثابت, فضل محسن الربيعي, فرقة الإنشاد, وعشرات الفنانين الشعبين( ).
    تأثيره في الخليج والجزيرة العربية
    لا نجانب الحقيقة في القول إن أشعار يحيى عمر وألحانه وغنائياته قد أضحت تراثاً مشتركاً لكل دول الجزيرة والخليج العربي لما له من تأثير تمتد خيوطه الوثقى من عصره وحتى اليوم. وعن تأثير شعره وفنه على مستوى الجزيرة والخليج يقول الباحث خالد بن محمد القاسمي:" فاق تأثر الأغنية الخليجية بفن (يحيى عمر)، أو الفن (اليافعي خاصة) أكثر من تأثرها بالغناء اليمني بشكل عام.. وهكذا نلاحظ بأن تأثر منطقة الخليج بالغناء اليافعي واضحاً في ترديد الفنانين الخليجيين لأغاني يحيى عمر، وكذا ترديد الأغاني اليافعية التي غناها الفنانون اليمنيون وخاصة الحضارم منهم"( ).
    وهذا التقييم المنصف يستند إلى الانتشار الواسع لغنائيات يحيى عمر وبقائها على أفواه الرواة وتناقلها عبر الأجيال وحضورها المتجدد والمتألق لما تمتاز به من الرقة والعذوبة وما تصوره من أحاسيس ومشاعر إنسانية صادقة . فقد غنى ولازال يغني كثيرون من فناني الجزيرة والخليج بألحان وأشعار يحيى عمر نذكر منهم: محمد زويد، محمد بن فارس، ضاحي بن وليد،إبراهيم حبيب، عبدالعزيز بو رقبه , يوسف البكر عوض الدوخي، طلال مداح، سالم راشد الصوري، محمود حلواني، ابن الساحل، محمد التناك، جمال العثمان، محمد عبده، عبدالمجيد عبدالله.. وغيرهم.
    ويكفي أن نشير إلى التأثير الذي تركته غنائيات يحيى عمر على الفن البحريني – كمثال – على يد أشهر فنانيها المرحوم محمد بن فارس (1895-1947م) الذي عُرف بأنه أبو الأصوات الخليجية، وأنه أبرع وأشهر من غناها, وقد كان له الفضل الكبير في حفظ كثير من قصائد يحيى عمر من الاندثار, فهذا الفنان وحده غنى أكثر من (34) أغنية من أشعار يحيى عمر، وردت جميعها في الكتاب الصادر عنه( ) محتلة المرتبة الأولى، سواء من حيث الترتيب أو الكثرة مقارنة بما غناه لغير يحيى عمر من أشعار، هذا عدا عن تلك الأغاني التي وردت مجهولة أو منسوبة لآخرين فيما هي في الواقع ليحيى عمر. وقد كان هذا الكتاب من بين مصادرنا الهامة في عملنا هذا، خاصة في الاستفادة من القصائد التي وردت فيه ولم ترد في كتاب "غنائيات يحيى عمر" مع ملاحظة أن الفنان محمد فارس قد طبع أغاني يحيى عمر بمسحة من لهجة بلده البحرين وهو أمر لا يمكن أن نؤاخذه عليه ومثله فعل آخرون في أكثر من مكان .
    نسب يحيى عمر ومسقط رأسه
    ظل نسب يحيى عمر ومسقط رأسه مثار شك، بل وادّعى البعض بنسبه دون سند تاريخي. ومن المناطق التي زُعِمَتْ مسقط رأسه حضرموت، عمان، البحرين.. الخ. ولكن الشاعر والفنان يحيى عمر لم يدع في أشعاره مجالاً لمثل هذا الشك أو الاجتهاد، فقد شاءت الأقدار، أو هو حسن الحظ، أن يخلّد "أبو معجب اليافعي" اسمه ولقبه ونسبه في صميم أشعاره، ولا تخلو معظم قصائده من ذكر اسمه أو كنيته أو لقبه وكأنما كان يدرك بحدسه وحنكته أن أشعاره وألحانه التي تسافر معه حينها في رحلاته وأسفاره الكثيرة ستحط رحالها وتستقر في ذاكرة الناس في أكثر من مرسى ومدينة، وفي أكثر من بلد قصدها أو مكث فيها، لأنهم كانوا يتلقفونها ويحفظونها عن ظهر قلب, فحرزها بطابعه الخاص ودمغها باسمه ولقبه كجزء من نسيجها وبنيتها، وكأنما كان يخشى أن تتعرض لعبث العابثين وطمع الطامعين، فجعلها بذلك ماركة خاصة به يصعب العبث بها أو تزويرها، وهذه أمثلة من شعره, كقوله:
    ويحيى عمر اسمي وأصلي من اليمن
    وأسكن على رأس الجبال العواليا

    ولكن من أين من اليمن يا يحيى ؟ ومن أي المرتفعات الشامخة تحديداً على كثرتها في بلاد اليمن؟ فيجيب في قصيدة أخرى:
    وأنتي سالتيني مسوله عزيزة
    ويحيى عمر اسمي وقانص لظبية
    أنا الأصل من يافع وساكن في الطشوش
    أنا وَيْت جُملة ناس جينا لها طروش

    وعلى وجه التحديد يذكر نسبه من (يافع بني مالك) في قصيدة أخرىً:
    فقلت من يافع بني مالك مجلين الكرب
    يحيى عمر اسمي مولَّع ضعت في بحر الغبب

    وهكذا أفصح يحيى عمر عن أصله وفصله ونسبه اليافعي اليمني الذي لا خلاف عليه، رغم ادعاء البعض من الدول المجاورة بنسبه. كتب فضل النقيب يقول: "ذات يوم سمعت مذيع التلفزيون العماني وهو يقدم أغنية ليحيى يقول: يحيى عمر العماني.. تعجبت من أين جاءته هذه المعلومة، ثم قلت لنفسي: إنه - على كل حال - يحيى عمر الجوال، يترك أثراً وراءه حيثما حل وارتحل، ولا بأس أن تدعيه الهند لنفسها، أو تصطفيه عمان بين أبنائها،أو يدعي البحارة أنهم خطفوه من مدينة عرائس البحر، وأن المحيط هو وطنه،.. وهو يحمل وطنه الحقيقي في روحه، وحيثما ومتى شاء يستحضره قبل مستحضري الأرواح فيبكي في حضرته أو يشبه لوعته أو يغني له لكي لا يغضب عليه"( ) وأتفق مع الأستاذ فضل النقيب أن مثل هذا الادعاء يحسب ليحيى عمر ويزيد من مكانته وشهرته التاريخية, ومن حق كل بلد ومدينة مر بها أو مكث فيها فترة تطول أو تقصر أن تخلده أو تفاخر في كونها احتضنته أو حظيت بفيض من إبداعه الشعري. فالقصيدة الجيدة, كما يقول د. عبدالعزيز المقالح, تستطيع أن تسافر عبر القارات وعبر الأزمنة، وإن الشعر الحقيقي كالضوء، لا جنسية تحصره، ولا جغرافيا تحده، ولا زمن يعزله أو يحتويه ( ). وأشعار يحيى عمر هي من ذلك الصنف الذي قصده المقالح، كانت وستظل كما كان صاحبها في ترحال دائم عبر المكان والزمان، ومع كل ذلك كان ويظل يحيى عمر" أبو معجب" يافعي النسب, يمني الأصل والهوى، كما بين ذلك بنفسه في شعره؛ وهكذا ظل الخلاف لفترة منحصراً فقط في هل هو من يافع الجبل؟ أم من يافع حضرموت ؟ وإلى أي البطون الحميرية ينتمي نسبه؟!.
    فصلاح البكري في كتابه "تاريخ حضرموت السياسي" ينسبه إلى يافع حضرموت ويعتبره أحد مشاهير الشعر العامي في حضرموت( )وعنه ذكر ذلك أيضاً محمد عبدالقادر بامطرف الذي أضاف أنه "لا يعرف إلى أي البطون الحميرية ينتمي، إنما يقال إنه من آل الشيخ علي آل هرهرة". ولكن من أين جاء هذا القول الذي أورده بامطرف؟ لقد ذهب البعض في تفسير ذلك بالقول: إن يحيى عمر قد هاجر من يافع إلى حضرموت عام 1118هـ ضمن الحملات العسكرية كعسكري من المجاميع القبلية التي انضوت تحت قيادة محمد صالح هرهرة (والأصح عمر بن صالح) وكانت من طبيعة أبناء يافع خارج منطقتهم الانضواء تحت نسب القائد كأن يقال (جيش هرهرة أو عسكر آل هرهرة) فلربما هذا ما دعا بامطرف من أن ينسب يحيى عمر إلى آل هرهرة. ورغم أن هذا التفسير قد أوَّل مسوغات ما يمكن اعتباره لبساً فيما ذهب إليه بامطرف إلاّ أننا نجد تحاملاً عليه في مكان آخر وكأنما يُتهم في أنه قطع بصحة هذا النسب "دونما استناد تاريخي أو أدبي بالرجوع إلى قصائده التي خلت من الإشارة إزاء أمرة آل (هرهره)"( ). وبهدف استقصاء الحقيقة قادني البحث إلى معرفة مصدر ذلك اللبس في القول بأن يحيى عمر ينتمي إلى آل هرهرة. وقد تبين فعلاً أن هناك شخصاً آخر اسمه يحيى عمر بن هرهرة، كان قائداً عسكرياً مع رفيق لـه اسمه شاجع بن أبي بكر بن هرهرة كما ذكر ذلك مؤرخ "الدولة الكثيرية" ويروي حكاية هذين القائدين بقوله:" قالوا: وفي سنة 1113هـ وصل مكتب (رسول مستعجل) من شاجع بن أبي بكر بن هرهرة إعلاماً بوصوله إلى عتق. وفحوى كتابه أنه إنما جاء إلى هذه الأطراف لزيارة الحبيب علي بن أحمد حماه الله, ولأن الحبيب المذكور مع السلطان عمر كتبا له يستدعيانه مع من يختاره من يافع ليجعلوهم في الجندية وأنه قد استصحب معه ثلاثمئة شخص. ولم يلبث أن وصل ومن معه على عينات وجاء السلطان إليها وحضر الشيخ يحيى بن هرهرة وجماعة من العسكر والوجهاء وما انتظم المجلس بحضرة الحبيب تذمر السلطان وشكى الثقل من مصاريف العسكر وحاول أن يعتذر من قبول شاجع ومن معه فأظهر هذا كتابين أحدهما من الحبيب والآخر من السلطان يطلبان منه أنه يجلب عسكراً من يافع.. وأراد السلطان أن يقتصر على البعض ولكن شاجعاً رفض ذلك وقال: إما تقلمهم كلهم وإلاّ رجعنا كلنا"( ). وهكذا يتبين لنا مصدر ذلك اللبس الذي ربما ترسَّخ في الذاكرة الشعبية وخلط بين القائد العسكري الشيخ يحيى عمر بن هرهرة وبين الفنان الشاعر يحيى عمر الجمالي اليافعي.
    من هنا ربما جاءت خلفية ما ذكره بامطرف، ومع ذلك فإنه - وهو المؤرخ الحصيف - لم يقطع بصحة نسب يحيى عمر إلى آل هرهرة كما هو واضح، بدليل قوله (إنما يقال) ولعله أورد ما كان متداولاً في الذاكرة الشعبية, لأنه لم يقف على أدلة تاريخية قاطعة فاكتفى بهذا الإسناد الضعيف تاركاً الباب مفتوحاً للاجتهاد أو لكشف الحقائق إن وجدت, وله في ذلك أجر المجتهد.
    وكان سرجنت أول من شك في أن يكون يحيى عمر من مواليد حضرموت، إذ كتب يقول: "لا أعرف ما إذا كانت حضرموت هي مسقط رأسه أم أنه قدم إليها من جبل يافع، ولكني أشك أنه من مواليد حضرموت وعلى كل حال فإنه كان أحد رجال قبيلته"( ). وقد كان شك سرجنت في محله، وهناك الكثير من الشواهد والأدلة في ثنايا شعره تبدد وتجلو هذا الشك. ويذكر الفنان اليمني محمد صالح الحضرمي في مقابلة معه في صحيفة الثورة 3/8/1984م أن يافع مسقط رأس يحيى عمر وفيها كانت وفاته. أما الأستاذ أحمد بو مهدي فيقول بنسبته إلى يافع بن رعيني الحميري ويسميه أيضاً يحيى عمربن مهدي الجمالي اليافعي وينسب إلى الجمالي هذا قوله على لسان الفنان الراحل عوض عبدالله المسلمي( ). ومع أن الأخير لم يكن معاصراً ليحيى عمر وليس لديه هو الآخر ما يقطع بصحة قوله هذا، إلاّ أن هناك ما يدعم هذا القول في قصيدة ليحيى عمر:
    يا رب سالك بمن أركانه أربع
    تمحي ذنوب الجمالي وارزقه أربع
    قال الجمالي مفارق لي سنين أربع
    والخامس الفرض موجوبه على الواحد
    أنت الذي عالماً في نية الواحد
    لابد من ذا وذا يجري على الواحد

    وهذه الإشارة في شعره إلى سلالته الأسرية كانت الخيط الذي قاد لجنة إعداد الجزء الأول من غنائيات يحيى عمر إلى مسقط رأسه "بيت الجمالي" ذراع "كُبانة" في "حيد المنيفي" بمشألة – يافع، وانجلى بذلك نَسَبُه بعد شكوك حامت حوله لفترة طويلة وغموض كاد أن يجعل منه أسطورة خيالية وأتضح أنه سليل بيت (آل الجمالي) وهي أسرة شهيرة من بطون سرو حمير (يافع), ولم ينس أن يذكر ذلك بوضوح في أكثر من قصيدة. وحسب شهادة الشاعر عاطف غرامه والشاعر حسين عبيد الحداد الذي توفي عن عمر ناهز 92 عاما, وهما من أسرة واحدة, فإن جدهما كان يشير إلى الشمس وقت الغروب لمعرفة الفصول الزراعية وموسم الأمطار ومن أنها تغيب من حافة ركن بيت يحيى عمر.
    إذاً، هنا في قمم هذه الجبال اليافعية السامقة, وتحديداً في قرية "بيت الجمالي" كان مسقط رأس يحيى عمر وفي أحضانها قضى طفولته المبكرة وشرخاً من شبابه، كما سوف يتضح، وربما ووري جثمانه الثرى هنا.
    ميلاده
    لا نعرف على وجه التحديد يوم وشهر وسنة ولادته, لكنه عاش على وجه التقريب بين عامي (1052-1162هجرية) وهو ما يكاد يجمع عليه الباحثون ويتسق مع ما جاء هنا وهناك من ذكر لبعض الأحداث والأسماء في مضامين أشعاره. نقول ذلك لأننا نعرف تماماً أنه في عهد يحيى عمر وطوال العهود اللاحقة حتى عشية الاستقلال عن بريطانيا في 30 نوفمبر 1967م لم يكن الناس في يافع، كما في كثير من مناطق اليمن، يحفلون بتوثيق وتدوين تاريخ الميلاد أو الوفاة، لشيوع الأمية والجهل والفتن، والشيء الوحيد الذي كان يتم توثيقه هي سجلات ملكية الأراضي أو بيعها أو رهنها وحتى عقود الزواج كانت تتم شفوياً. أما ميلاد الأشخاص وكذلك وفاتهم فإن الذاكرة الشعبية تربطها بحادثة هامة جرت متزامنة مع ميلاد أو وفاة الشخص، كأن يقولون ولد أو مات (سنة الخامج) أو(سنة الجراد) أو (سنة القحط) أو ما شابه ذلك. ولذلك فأن ما وقفنا عليه من معلومات حول تأريخ ميلاده لا تخرج عن التخمين أو الاجتهاد. فهذا هو الفنان محمد صالح الحضرمي في حديثه لصحيفة "الثورة" عام1984م يروي ما سمعه شخصياً من المرحوم إبراهيم الماس قوله: "عاش يحيى عمر قبل خمسمائة عام.. وهو شاب من يافع وكان شاعراً مشهوراً وله أصدقاء يلازمونه باستمرار يدونون كل أشعاره ويقال بأنه كثير الأسفار.. يتنقل من بلاد إلى أخرى ويتزوج من كل بلد يصل إليها"( ). وهذا تخمين مبالغ فيه لا يوافقه فيه أحد، ولا لوم عليه في نقل ما سمعه من فنان يكبره سناً هو إبراهيم الماس الذي كان يملك (ديوان شعر) مخطوط ليحيى عمر. لكن على الباحث أن يتحرى الدقة عند الأخذ بمثل هذه الفرضيات والتخمينات.
    من جانبهم حاول معدو (غنائيات يحيى عمر) الإجابة على هذا السؤال بطريقة اجتهادية لم يحالفهم فيها التوفيق، ليس فقط لجنوحهم إلى التخمين في المسائل التاريخية فحسب، بل ولوقوعهم في تناقض واضح فيما أوردوه من معلومات حاولوا إلباسها ثوب الحقيقة التاريخية، ففي مقدمة الكتاب إشارة إلى أن يحيى عمر هاجر إلى حضرموت ضمن الحملات العسكرية مع المجاميع القبلية في 15 ربيع أول سنة 1118هـ، وهو ما نرجحه، بدليل ذكره لشيخه السلطان عمر بن صالح في قوله:
    والله وشيخي عمر واليافعي جدِّي
    دنيا الندم يا ندامى الخير فضَّاحه

    إلاّ أنني لا أدري كيف جاز تقدير عمره حينها بـ 21 عاماً تحديداً، وإذا أخذنا بتلك الفرضية، أي أنه في العام 1118هـ كان يبلغ من العمر 21 عاماً فأنه سيكون من مواليد 1097هـ. وورد أيضاً أن وفاته على الأرجح كانت سنة 1167هـ، وتأسيساً على ذلك فأن عمره عند الوفاة يكون قد ناهز السبعين عاماً. وهذا العمر يتفق تقريباً مع سنة ميلاده الافتراضية أعلاه. لكننا نفاجأ في فقرة لاحقة في المقدمة ذاتها بما يناقض ذلك تماماً، ففي صفحة 30 ورد قولهم:" ومن خلال تحقيقنا استنتجنا أن يحيى عمر قد عاش في الفترة 1062هـ حتى 1152هـ ". ووفقاً لهذا التحديد فإن يحيى عمر سيكون لـه من العمر في العام 1118هـ، حوالي 56 عاماً وليس 21 عاماً كما ورد في الكتاب، ثم أن العمر سيمتد به قرابة عشرين عاماً أكثر مما قدر له سلفاً، ويكون بذلك قد عاش، ليس 70 عاماً، وإنما قرابة تسعين عاماً، وهذا هو عمره الحقيقي أو ينيف عن ذلك تقريباً لتوافقه مع قوله:
    قال الفتى يحيى عمر قلبي تولاه الطمع
    لي بالعمر تسعين لكن عاد قلبي ما قنع

    ولهذا لا يمكننا تحديد تاريخ ميلاده على وجه الدقة, ونكتفي بالقول أنه عاش على وجه التقريب بين عامي (1052-1162هجرية).
    طفولته البائسة ونبوغه المبكر
    عاش يحيى عمر طفولته في حيد المنيفي بيافع كأترابه الصغار، يسرح ويمرح في بطون الجبال والأودية، لكن الحياة عبست له مبكراً بموت أمه وفقدان حضنها الدافئ، وزاد من وطأة ذلك زواج والده من خالة فظة غليظة القلب، وعدم الثقة بوالده الذي لا يملك زمام أمره فأصبح هو الآخر أسير زوجته، طيعاً لها بصورة عمياء، ولا يقل عنها قسوة تجاه الطفل يحيى. وأمام هذا العذاب والشقاء ربما كان يحيى الطفل الصغير يجد سلوته الوحيدة في رعي الأغنام مع أنداده من الأطفال في دروب الجبال وبطونها وأوديتها ذات المناظر الطبيعية الآسرة والخلابة التي لا شك أنها قد شهدت ولادة موهبته الشعرية المبكرة التي أنضجتها أيضاً المعاناة القاسية لفقدانه الأم الحنون وسفود الضيم والظلم التي تصهره عليها خالته الشريرة صباح مساء، ليس لأنها لا تريده " أن يقاسمها الكسرة الشحيحة " بل لأن الرحمة لم تجد طريقاً أو حتى منفذاً صغيراً إلى قلبها، بصرف النظر عن يسر أو عسر الأسرة. وحتى مع شظف العيش فهناك خالات طيبات يقمن مقام الأم ويشملن أبناء الزوج بدفء وحنان الأمومة فيصبحن بالنسبة لهم كالأمهات قولاً وفعلاً ويخاطبون أمثالهن بعفوية وبراءة الأطفال كأمهات لهم، وينمو هذا الحب المتبادل ويتقوى، حتى إذا ما كبر الطفل وشب عن الطوق وفكر في السفر طلباً للرزق لمساعدة الأسرة، يغادر مصحوباً برضاء الوالدين (الأب والخالة الأم) ودعوتهما الطيبة لـه باليسر والتوفيق والعودة بالسلامة ودموع الفراق تنساب من الجانبين. أما خالة يحيى عمر فهي ممن ينطبق عليها ما قيل في الأمثال اليمنية "الخالة خوَّالة ولو كانت أخت الأم" و"الخالة خلى" و"الخالة مَخل( )" وجميعها تضرب في سوء تعامل زوجة الأب مع أبنائه من غيرها حتى ولو كانت أخت أمهم. وقد عبَّر الفتى يحيى عمر عن معاناته من خالته التي أوجعت قلبه وأطعمته الماء علقماً برائعته التي أُحب أن أطلق عليها (قصيدة الرحيل) وهي التي يقول في مطلعها:
    يقول يحيى عمر من ماتت أمه تقنع
    ياآح من خالتي خلَّت فؤادي مُوجَّع
    يومي وليلي وطرف العين ماعاد يهجع
    بايطعم الماء صبر والقوت ما عاد ينفع
    يا ربنا نسألك تنزل لها موت أفجع
    لمَّا الصّميل المعقد طُول ظهري بيقرع

    ها قد كبر الفتى يحيى وشب عن الطوق وأخذ يتطلع إلى الخلاص من جحيم المعاناة التي يعيشها، وفكر بالخروج من هذه المحنة، ولكن كيف؟ لا شك أن مغادرة البيت الموحش قد كانت الهدف الذي سيطر على شغاف قلبه، ولا يهمه إلى أين، فالمهم له أن يزيح كابوس المعاناة وليغادر إلى حيث يشاء من مهاجر اليافعيين الكثيرة التي يسمع عنها، وأرض الله واسعة، والمثل اليافعي يقول "أرض تهين الفتى، الشَّردة منها أدَى/ أي غداء"( ) أو "بلد تهين الفتى، البُعد منها سُعد" وربما تبادر إلى ذهنه هذا المأثور الشعبي وهو يتخذ قراره الحاسم. ولا شك أنه ظل أسير مشاعر مزدوجة تتنازعه بين حب الناس له وحبه لهم، وبين ضيقه من خالته وسلبية ولا مبالاة والده، وهكذا "فجرت التواردات والمشاعر اللاواعية روح نورس الجبال الحزين ليطلق جناحيه للرياح بحثاً عن الحب والسلوى فيما وراء هذه الجبال القاسية حيث يطيب له العيش ويشبع رغباته المتعطشة للمسة جسد حنون وقبلة ثغر باسم بوجه صبوح، تعويضاً عن حياة البؤس والحرمان المجدبة. وإذا كانت المرأة دوماً وأبداً هي الكائن الوحيد الذي يستطيع تخفيف كربة الرجل المغترب عن دياره في كل زمان ومكان تقريباً، فإن المرأة بالنسبة للشاعر ليست فقط الأنس والسلوى في جحيم الاغتراب، بل هي الهدف والقصد المنشود, إنها مفتاح السر في شخصية الفنان يحيى عمر، هي البديل المجزي عن الأم المفقودة، هذا الطموح الملتهب كشمس الجبال هو الذي جعله يقرر الرحيل سيراً على قدميه الحافيتين سالكاً الطرق الوعرة الموحشة وهو لا يملك من متاع الدنيا شيئاً"( ).
    مغادرته يافع مكرها
    مما لا شك فيه أن معاناة يحيى عمر المبكرة قد كان لها الفضل في إذكاء وصقل موهبته التي وهبه الله إياها كشاعر وفنان سيكون له شأن يخبئه له القدر يتجاوز به الزمان والمكان، وقد نضجت موهبته مبكراً مع نمو عوده واشتداد ساعده حتى أصبح واحداً من الشعراء الشعبيين الذين يعتد بهم ويحفظ الناس أشعارهم، بل ويتغنون بها في أفراحهم وأعيادهم، وهكذا أخرجه الشعر من معاناته من خالته القاسية ومن عزلته كراعٍ للأغنام في الأودية وبطون الجبال التي كأن يأنس إليها من وحشة البيت، وقاده إلى الوسط الاجتماعي الذي يجل الشعر والشعراء ويحتفي بهم، بل ويفاخر بهم. ومن قصيدة الرحيل الشهيرة (من ماتت أمه تقنّع) نعرف أن يحيى عمر قد غادر يافع وهو فتى راشد وشاعر فحل تشرب بهوائها ومائها واستلهم تراثها وعاداتها وتقاليدها وزرع حبها في تلابيب قلبه وحناياه قبل أن يشرع بالرحيل ويغادر مكرهاً على أجنحة الشوق الذي ظل يشده إلى مسقط الرأس مهما نأى به المكان وأحاطته مدن الغربة من حب وهيلمان.
    حينما غادر يحيى عمر مسقط رأسه لأول مرة كان لابد له أن يسير مشياً على الأقدام في دروب جبلية صعبة ومتعرجة ألفها ووطأتها قدماه أكثر من مرة في بطون الجبال وسفوحها وأوديتها, وأن يمر على (المَكْلَة)، وهي عين الماء في بطن الجبل التي طالما ارتادها ليروي عطشه من مائها العذب قبل أن يواصل رحلته, وهناك يصادف الفاتنات الأربع على حافة النبع (المَكْلَهْ) اللاتي حاولن إثنائه عن قراره بالرحيل:
    قال يحيى عمر صادفت عا(المَكْلَهْ) أربع
    وحين صادفتهن سوّين شكل المربع
    وكل واحده بتوقف في طريقي وتمنع
    مُسّجدات النبع خلّين عقلي مضيّع
    قالين لي نسألك بالله وا يحيى ارجع
    وقلت يا "الخَنْيَمي" تحضر معيّا وتفرع

    لماذا هذا التقطع والمنع من قبل الفاتنات الأربع للفتى يحيى والتضرع إليه لإقناعه بالعدول عن قراره بالرحيل؟ لا شك أنه لم يكن فتى عادياً مثل غيره من أترابه، بل كان - وهو الشاب اليافع - قد امتلك حينها موهبته الشعرية وأبدع حينها أروع وأجمل وأعذب أشعاره في حفلات وأفراح الزواج والأعياد وأصبح شاعراً مشهوراً يشار إليه بالبنان, لذلك عز على هؤلاء الفاتنات مغادرة الشاعر المرهف الإحساس يحيى الذي يستأثر بقلوبهن، ويعرفنه جيداً شاعراً لا يبارى في وسط صفوف ألعابهن الجماعية، حيث كن ينتظمن في صفين متقابلين متشابكات الأيدي إلى جانب بعضهن بعضاً وكان الشاعر يدخل إلى بين الصفين ويرتجل الأبيات الشعرية فتلتقطها النساء على الفور من فم الشاعر بصورة تسجيلية ويحفظنها عن ظهر قلب ويرددنها بأصوات غنائية وحركات اهتزازية راقصة بديعة( ). وهكذا أدركت الفاتنات الأربع مدى الفراغ الذي سيتركه سفره، إنه خسارة لا تعوض بالنسبة لهن ليس فقط كشاعر يصنع البهجة في أفراحهن وألعابهن، بل وكفارس محتمل لأحلامهن، فحاولن جهدهن التأثير عليه لإثنائه وإرجاعه، وحين لم يفلحن أمام إصراره وتوسلاته لهن واستغاثته بولي الله الصالح (الخَنْيَمِي)، لم يكن أمامهن من بد إلاّ التعاطف معه والدعاء لـه، ونبع الدموع يسيل بغزارة من الجانبين من لوعة الفراق.
    وهذه القصيدة بالذات يافعية اللحم والدم.. المبنى والمعنى.. الزمان والمكان.. إنها حقاً "قصيدة الرحيل" لأن الشاعر الشاب يحيى عمر سكب فيها دموعه وحرقته وهو يغادر مسقط رأسه لأول مرة، ويرحل عن الأماكن التي ألفها وعشقها والناس الذين أحبوه وأحبهم، باستثناء خالته الشاذة بقسوتها التي تمنى لها "موتاً مفجعاً" كمقابل مكافئ لسياط "الصميل المعقد" وهو العصا الذي ترك علامات وندوب في ظهره منذ صغره ، وقد حشد في هذه القصيدة أسماء يافعية عديدة عزيزة على قلبه.. الدَّار الذي تفتحت فيه عيناه وأبصر فيه النور (بيت الجمالي) المنتصب فوق قمة (حيد المنيفي) وكأنه قطعة منحوتة من صميم الجبل ذاته.. عين الماء (المَكْلَهْ) التي ارتوى من مياهها العذبة كثيراً.. وادي وجبل وأَشعاب (ضَوْل) بمنحنياته وشماريخه التي عرفها وعرفته وشهدت ميلاد وصقل موهبته الشعرية ورددت معه صدى أشعاره التي كان يقولها للتنفيس عن النفس حينما كان يتنقل فيها مع زملاء الطفولة وهم يرعون الأغنام، يسرحون ويمرحون (على شُبّابة الرعيان). فما أقسى لحظات الوداع رغم الأمل المرتجى بالعودة، مثله مثل من سبقه في رحلة الهجرة والاغتراب:
    يحيى عمر قال يا بيت الجمالي موّدع
    سَرَحت منّك ومنّك من سرح ليك يرجع

    هنا نتعرف على يحيى عمر باسمه المجرد دون كنية أو لقب، ومعروف أن الشخص - وهو يعيش بين أهله وأقربائه- لا ينادى سوى باسمه فقط، وهكذا يحيى عمر, ومثل هذا الشعر قاله أثناء وجوده في يافع أو حين هم بمغادرتها، وهو هنا ليس بحاجة لتأكيد نسبه الأسري من آل (الجمالي) أو القبلي (اليافعي) لأنه مازال حينها بين أهله وربعه وأقربائه الذين يعرفونه حق المعرفة، بل ويحبونه ويقدرونه لموهبته الشعرية المتميزة، وقد بادلهم مشاعر الحب تلك كما يتضح من قصيدة الرحيل. أما اللقب الأسري أو القبلي فيلجأ إليه المرء خارج إطار عشيرته أو قبيلته لسهولة التعرف عليه من قبل الآخرين، وهو ما كان معه في كثرة أسفاره وتنقلاته التي يضيف إلى اسمه نسبه "اليافعي" وفي قصائد قليلة "الجمالي" أو "ولد يافع" أما في كثير من الحالات فكنيته الشهيرة "أبو معجب" التي لا يعرف على وجه التحديد ما المقصود بها: هل كانت له ابنة باسم "معجب" ؟ - كما تقول إحدى الروايات – أم أن مرد ذلك إعجابه بنفسه كما في قوله:
    يحيى عمر قال شليت العجب والدان
    يا سلوة القلب واللون العجيب

    يافع في شعره وفنه
    مع كثرة أسفاره وارتياده أكثر من بلد ومدينة فإنه لم يقطع صلته بيافع، وحتى الهند على رحابتها وسعتها وجمال طبيعتها وفاتناتها الغانيات وملذات الحياة فيها على كثرتها لم تنسه يافع ولم تنتزع منه حبه الأول الذي ظل مشدوداً إليه يحن إليه آناء الليل وأطراف النهار، ولذلك لا يستبعد أن "أبو معجب" قد عاد أكثر من مرة إلى مسقط رأسه، مثلما يعود كثيرون أمثاله من أبناء جلدته, مهما طالت سنوات البعاد أحياناً، متجشماً عناء السفر وركوب المخاطر في لُج البحر الهائج والمضطرب، ولعل في قصيدته (ليت الهند في يافع) - كما يقول بدر بن عقيل - ما تفرد به يحيى عمر من البوح بصدق مكنوناته، والحديث عن مشوار حياته، ولهيب مشاعره التي ظلت متقدة حتى أواخر عمره، ثم ذلك الوفاء والحنين والحب إلى مسقط رأسه يافع, وذكرياته، فيما تتنازعه الهند بما قدمت له من عواطف وجمال وريحان.
    لقد نامت بجانبه تلك الفاتنة الهندية – لعلها إحدى زوجاته - وبملء عيونها، ذلك أنها لم تعرف بعد معنى الحنين إلى الأوطان، ويكفي أنها في أحضان رجل مثل يحيى عمر. أما هو فتراءت له "يافع" وملأت حدقتي عينيه دموعاً وأشواقاً، وهزت قلبه ذكريات وأماني:
    يحيى عمر قال ليت الهند في يافع
    ما كان أنا شي من أهلي والوطن ضائع
    وكم وأنا بالمراكب نازلاً طالع
    وإن طوّل الوقت شفني للمحب راجع
    أو ليتكم بأرض يافع يا أهل هندستان
    وان سبتكم قال لي ذا القلب عُود الآن
    تلعب بي أمواج بحر اللول والمرجان
    كحَّل عيونه وسا نقطه على الأوجان

    إن مسقط رأسه يافع هي صورة مصغرة للوطن الكبير (اليمن) الذي أجهر يحيى عمر بانتمائه إليه غير مرة وحمله معه في حله وترحاله وتغنى بكثير من مدنه وقراه وهاهو يشمله بالسلام:
    سلام يملأ البلد ذي حدّها واسع
    وقل لهم ما فؤادي منّكم قانع
    من لحج لا ابين ومن ردفان لا ردمان
    راجع إليكم بعونه ذي سُمي رحمان

    ولكن هل كوّن "أبو معجب" أسرة له بيافع جعلته مشدوداً إليها بهذه الوشائج العاطفية القوية كما نستشف من لوعته وصبابته وهو يصف لواعج شوقه للأهل والوطن؟ أو أن غربته هي التي أثارت شجونه وجعلته يحن بهذه الحرارة للوطن والأهل الذين عز عليهم فراقه ؟
    حول هذه المسألة تختلف الروايات المتداولة بين قائل إنه لم يتزوج في يافع، وإن كان قد تردد عليها أكثر من مره عند عودته من مهجره، بل إنه قضى فيها كهولته أواخر عمره ودفن، على الأرجح، هناك في مسقط رأسه، وإن كان بامطرف يذكر أنه توفي في ولاية برودة بالهند. وتنسج المخيلة الشعبية حوله هالة من الحكايات التي توحي بأنه قد كانت له زوجة وأبناء في يافع، كحكاية علاقته بابنته التي قابلها مصادفة عند نبع الماء في بطون أحد الجبال وهو عائد من مهجره في الهند بعد غربة طويلة دون أن يعرف أنها ابنته، فقال فيها تعشقاً قصيدته التي أخذت طابع الديالوج بينه وبينها ومنها قوله( ):
    وانا أسألش بالله أنا ريد شربة
    وقالت: معانا ماء ولااعطيك شربة
    ثم اسألك بالله من أي بلدتاً
    فقلت سألتيني بكلمه عزيزتاً
    أسلّم بها القيمة من الخيل والقروش
    ولو كنت مغشياً فلا جاز لك رشوش
    بشوفك رجل عاشق وطاهش من الطهوش
    أنا الأصل من يافع وساكن في الطشوش

    ونجـد حكايات مشابهة لتلك في حضرموت وفي الهند تشير جميعها إلى وقوعه – دون سابق معرفة - في عشق ابنته لولا أن الحظ ينقذه في اللحظات الأخيرة. ومثل هذه الحكايات هي - في تقديري - من نسج الخيال ومن بنات الأفكار التي أضافتها أو أبدعتها الذاكرة الشعبية في تأويل أشعاره لغياب الحقائق. ولا يعقل أن يكون يحيى عمر وهو الإنسان والفنان والشاعر المتشبع بالعاطفة والحب أن يكون قد ترك أبنائه أو بناته يواجهون قدرهم ومصيرهم المجهول بعيداً عنه، هذا إذا سلمنا أنه كان له أبناء، وأشك في أن يكون قد خلف ذرية، على الأقل في يافع، لسبب بسيط وهو أن الناس هنا يتشبثون بالأنساب ويحفظون تسلسل نسبهم أحياناً إلى الجد العاشر وربما أكثر، ولو كان له أبناء لوجدنا لهم أثراً في نسلهم المتعاقب. إلاّ إذا كانوا قد كَلّوا وانقطع نسلهم أو ذاب نسبهم في مهاجرهم، وهذا احتمال وارد لا نستبعده, خاصة لورود كنيته في بعض القصائد بأسماء مثل (أبو مطلق- أبو قائد- أبو ناصر- أبو جانية) وهذه جميعها من الأسماء الشائعة في يافع ومحيطها حتى اليوم.
    ونرحل معه وهو يهيم في أحد أسفاره في عُمان أسير هواه الذي يبدو أنه من جانب واحد (لأن اليوم غرَّب) أي مالت شمسه للغروب (ودنا ليله) أي خيم بظلمته ووحشته، دون أن يجد كلمة ترحيب، ربما لأن من قصدها لم تتعرف عليه، أو توجست خيفة منه لجرأته التي تتنافى مع عادات أهلها، ولكل ذلك عرّفها بأصله مفاخراً، علَّها تطمأن وتطيب نفساً لهواه:
    قال يحيى عمر كم لي وانا
    غرَّب اليوم ليله قد دنا
    انظري لا تخـافـي فأنا
    يافعي قط رأسه ما دنى
    يا عُمَانِيْهْ هايم في عُمان
    ما حَدَا قال حيَّا يا فلان
    يمني من أمِنْ حُكم الزمان
    حيد يافع حلالي والكنان

    إن تأثير يافع جلي وواضح ليس فقط في أشعار يحيى عمر المعجونة بتراب أرضه ومياهها وروائحها، بل في ألحانه التي كان لها الفضل الكبير في نشر وذيوع أغانيه وإعطائها صفة الديمومة والاستمرارية والانتشار الواسع الذي لا يتقيد بزمان أو مكان، وقد ساعده في ذلك أنه كان عبقرية فذة، جمع بين قرظ الشعر وتلحينه وغنائه مستمداً ألحانه الخالدة بإيقاعاتها المتنوعة والمتميزة من منابع الفلكلور الشعبي اليافعي التي ترجع بجذورها إلى أزمنة قديمة قدم الإنسان هناك، وظلت وما زالت تتردد في مختلف المناسبات والأفراح والأعياد والمواسم الزراعية وغيرها، فضلاً عن تأثره بالغناء والطرب الذي كان شائعاً في عهده والمعتمد في إيقاعاته على استخدام الأدوات الموسيقية البسيطة المعروفة كالطبل والمَرْوَسْ (الطَّاسَة) والمَرْفَعْ والشُبَّابة والمزمار..إلخ وهي ذاتها الأدوات الموسيقية التي ما تزال إلى اليوم تصاحب الألعاب الشعبية والرقصات والزوامل. وقد تشبعت مخيلة يحيى عمر بهذا الموروث الفني الغني وحفظته ذاكرته وجعل منه منهلاً خصباً لنجاحه الفني اللاحق الذي جعله واحداً من أشهر أساطين الفن والغناء اليمني داخل الوطن وخارجه.
    وهكذا يرجع إلى يحيى عمر الفضل في إحداث النقلة النوعية في تاريخ الأغنية اليافعية، وما إن يجري الحديث عن ألحان يحيى عمر فسرعان ما يدرك المرء أن المقصود بذلك هو اللحن أو اللون الغنائي اليافعي والعكس صحيح أيضاً. وهذه الصلة المتبادلة والحميمة لم تأت من فراغ، بل من تلك المنابع الفنية الأصيلة التي رفدت الأغنية اليمنية بلون متميز أضيف إلى ألوان الطيف المتعددة والجميلة التي يزدان بها الغناء اليمني اليوم.

    حضرموت في حياته وشعره
    قال الشاعر الشعبي الحضرمي المرحوم سعيد قشمر (توفي 1951م) في إحدى مساجلاته:
    من با يلقي قال بن قشمر كما يحيى عمر

    وإلاَّ فلا حاجه يقع يا ذا العرب عابر سبيل

    مما لاشك فيه أن حضرموت تمثل محطة هامة في حياة وانطلاقة يحيى عمر الفنية والشعرية، بعد مسقط رأسه يافع ، ومما لا خلاف حوله أنه عاش هناك فترة من الزمن، بعد أن قدم إليها سواء أكان ضمن الحملة العسكرية التي قادها عمر بن صالح بن هرهرة عام 1117هـ وكان أحد جنود هذه الحملة – وهو ما نرجحه كما أسلفنا - أو إنه قد وصل إليها قبيل أو بعيد ذلك بطريقة شخصية هروباً من معاناته من تصرفات خالته الرعناء والقاسية عبر (بندر عدن)، الذي ما أن وصله - وهو الفتى الريفي الغريب على المدينة بكل مفاتنها ومناظرها وبما تزخر به من حركة وأسواق ولهو وترف وفاتنات بمختلف الألوان و.. و.. إلخ - حتى أصيب بالدهشة والعجب لما رآه "أبو معجب" فأبدع رائعته التي أطربنا بها الفنان محمد مرشد ناجي:
    يحيى عمر قال يا طرفي لمه تسهر
    وإن كان عادك غريب ما تعرف البندر
    وإن شُفت شي في طريقك واعجبك شلّه
    إذا دخلت المدينة قول بسم الله

    كانت حضرموت في الفترة التي وصل إليها يحيى عمر قبلة يؤمها الكثير من اليافعيين نظراً للصلات المتبادلة التي كانت في عز قوتها بين يافع وحضرموت لكثير من الاعتبارات، لعل أهمها التأثير الروحي للسادة آل الشيخ أبي بكر مولى عينات على اليوافع، وتأثير الأخيرين في مجريات الأحداث العسكرية في حضرموت وقتئذ وفي فترات لاحقة، ثم إن السفر من وإلى حضرموت أو إلى أي مكان آخر كان أمراً عادياً وبدون جواز سفر أو إجراءات حدودية معقدة.
    ونجد أن ليحيى عمر مكانة خاصة في الذاكرة الشعبية الحضرمية، لا تقل عن مكانته في مسقط رأسه، ولا غرابة أن يعتبره البعض حضرمياً، فالمستشرق لاندبرج يعتبره أحد فحول الشعر في حضرموت، كما جاء الحديث عن (يحيى عمر عازف القيثار المقنبس) في مجلة (الجمعية الآسيوية) بكلكتا تحت عنوان "بعض القصص الشعبية من حضرموت"، ويعتبره صلاح البكري" أحد مشاهير الشعر الشعبي في حضرموت " فضلاً عمّا تختزنه عنه الذاكرة الشعبية الحضرمية من حكايات، كل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن "المرحلة الحضرمية" كانت من أخصب مراحل حياته الشعرية والفنية، بل والشخصية، حيث يروى أنه آثر البقاء في حضرموت وسكن بقرية (السحيل) شرق سيئون وتزوج وخلف ثلاثة أبناء عاشوا هناك حتى سنة 1264هـ، ثم نزحوا إلى جهة غير معروفة.
    وفي البحث عن دوافع ذلك النزوح وجدت في المصادر( ) أن حضرموت قد شهدت في تلك الفترة اضطراباً في الأوضاع السياسية وتأزمت علاقة يافع بالسلطان منصور بن عمر الكثيري الذي ناصب يافع العداء وأسرف إسرافاً كثيراً في الاحتكاك بهم والاسترسال في قتلهم وطردهم واستباحة أموالهم وديارهم وعقارهم. وقد بلغت به القسوة إلى حد أنه أمر مواليه ففجروا دار ابن معمّر الخلاقي في القطن بوضعهم كميات كبيرة من الباروت تحت البيت، على حين غفلة من سكان البيت، وتم إشعالها بواسطة فتيلة يمتد أحد طرفيها إلى الخارج فانفجر البيت انفجاراً هائلاً وهلك جميع سكانه، وكان بينهم عقيلتان من حرم الجمعدار عمر بن عوض القعيطي قيل إنهما عمتاه هلكتا فيمن هلك. وقد أحدثت هذه الكارثة أسوأ الأثر في الأوساط الحضرمية لاسيما الدوائر العلوية، وأسقطت هيبة منصور بن عمر من النفوس وضعضعت مركزه، وبالمقابل برز عمر عوض القعيطي من عزلته يومئذ، ليدخل في مواجهة مع منصور بن عمر ويضع أسس الدولة القعيطية، وتكون نهاية منصور بن عمر فيما بعد التخلص منه بالقتل على يد الجمعدار عوض بن عمر.
    وإذا كنا نرى في تلك الظروف المعقدة سببا وجيهاً لنزوح أبناء يحيى عمر, وربما كثيرين غيرهم من اليافعيين، فأن الغرابة هو انقطاع ذكرهم فيما بعد، مع علمنا بتفاخر اليمنيين والعرب عموماً بحفظ تسلسل نسبهم, فضلاً عن شهرة والدهم التي لا يمكن أن تجعلهم يعيشون في الظل أو أن يجهل مصيرهم، إلاَّ إذا أسلمنا بانقطاع نسلهم في المهجر. ونجد أسماء هؤلاء الأبناء في مطلع بعض قصائد يحيى عمر، خاصة تلك التي دونت وسجلت في البحرين بأصوات أشهر فنانيها وصدرت في كتاب بعنوان " محمد بن فارس.. أشهر من غنى الصوت في الخليج"( ) حيث يرد في مطلع بعض هذه القصائد أسم (أبوعلي) و(أبو مطلق) و(أبو ناصر) و(أبو قائد)عوضاً عن اسم يحيى عمر أو كنيته "أبو معجب" وقد تكون هذه أسماء لأبنائه ممن انقطع ذكرهم في المهجر, كما أسلفنا, ولكن من المحتمل أيضا أن تكون أسماء أو كنية لبعض حفظة تلك القصائد أو بعض المطربين ممن أعجبوا بها فتغنوا بها ونسبوها لأنفسهم، وتناقلها الناس منهم كما سمعوها، بينما نجد أن تلك القصائد ذاتها تورد في ذاكرة الناس والحفظة من المسنين في مسقط رأسه يافع باسمه أو كنيته المعروفة "أبو معجب".
    ومهما يكن، فالثابت أن يحيى عمر قد مكث في حضرموت ردحاً من الزمن، ومنها كانت انطلاقته الفنية والشعرية بعد مسقط رأسه يافع ثم رحلته إلى الهند عبر مدن ومراسي عديدة نستشف أسماءها من أشعاره: صنعاء، عُمان، البحرين، فارس، الهند.. إلخ ، ولا شك أن صلته بحضرموت لم تنقطع بسفره منها، والأرجح أنه تردد عليها في مواسم عودته من الهند إلى مسقط رأسه والعكس.
    وتقدم لنا أشعاره مؤشرات عن تلك " المرحلة الحضرمية " من حياته، التي نجده فيها متنقلاً كالطير من فنن إلى فنن، لا يستقر به مكان، لكن سيئون فتنته، كما فتنت أكثر من شاعر قبله وبعده، وسيئون هي درة مدن حضرموت وتشتهر بعذوبة مائها حتى أن قائلهم يقول (سيئون والماء ولا سمن البقر في شبام) وفي اعتدال هوائها وكثرة صفائها ولأهلها ميل إلى الأنس، ولين طباع وملاحة نسائها، حتى جاء في أمثالهم (مصباه في سيئون، خير من حرمه في مَدُوْدَهْ) والمصباه هي الأثافي إزاء المنصة التي كانت تطبخ الملاح عليها القهوة( ). فكيف سيكون حال شاعرنا رقيق المشاعر وهو يعايش هذا الجمال الآسر الذي فتنه حد الجنون:
    وقفت في سيئون متربص مع المتربصون

    داير مع من دار، بحر العشق لـه سبعه خنون

    شاحن بكاسات المحبة والندامى يغرفون

    يحيى عمر مفتون في بحر الهوى صابه جنون

    ومن سيئون الفاتنة، ينتقل بنا يحيى عمر إلى ضواحي تريم، وتحديداً إلى الجانب الغربي منها، إلى (شعب عيديد) وهو الوادي الذي تسقي سيوله مزارع المدينة والمعروف بحدائقه وبساتينه وبمراعي الظباء التي يتغزل بها الشعراء على اختلاف أذواقهم ومشاربهم. يصفه صاحب "إدام القوت" بأنه وادٍ مشرق البهجة، واضح النضارة، ساطع النور. وهناك يقف ولد يافع يشكو لوعته وهيامه بظبي عيديد:
    يا ريت أنا عبدك المملوك وأنته لي السيد
    بل أنت سيدي وسيد الكل يا ظبي عيديد
    ولا تعذب ولد يافع بكثر التهاديد
    شوفك بعيني الوحيد
    احكم على ما تريد
    لو كنت شاجع وجيد

    ولا شك أن تلك الظباء في شعب عيديد هي التي قصدها الشاعر العاشق أيضاً في قصيدة أخرى له يقول فيها:
    العشق سنّه وعندي فرض يا اهل الودادي
    يا من جعيده على امتانه طرايح وغادي
    والعنق عنق الظباء ما يستعف بالبوادي
    ما دام قلبي يهيم
    كمثل ليلاً بهـيم
    يرعى نواحي تريم( )

    وهناك روايات وحكايات تشاع عنه في حضرموت شبيهة بتلك المتداولة في مسقط رأسه يافع، من ذلك قصة ترتبط بأغنيته " يحيى عمر قال ما شان المليح" حيث يقال( ) إن يحيى عمر كان في رحلة طويلة إلى الهند وحين عودته مر بأحد الغيلان "الأودية النهرية" في حضرموت وصادف فتاة جميلة وقام بوصفها بهذه الأغنية في حين أن الفتاة ابنته فاحتضنها وعاد إلى أسرته.

    "المَكْلَةْ" ليست "المُكَلاَّ"
    سبق الإشارة إلى معنى (المَكْلَهْ) في اللهجة اليافعية كنبع ماء في بطن الجبل. وقد بحثت عن أصل الكلمة فوجدتها فصحية، ففي "لسان العرب" جاء: المُكْلة والمَكْلة: جَمَّةُ البئر، وقيل: أول ما يستقى من جَمَّتِها. والمُكْلة: الشيء القليل من الماء يبقى في البئر أو الإناء. وقيل المَكُول: من الآبار التي يقلُّ ماؤها فتَسْتَجِمُّ حتى يجتمع الماء في أسفلها، واسم ذلك الماء المُكْلة. والمِمْكَلُ الغدير القليل الماء.
    إذاً (المَكْلَةُ) هي النبع القليل الماء في بطن الجبل أوهي حوض الماء المتجمع من ذلك النبع ومنه تستقي النساء الماء، وتُعرف بهذا الاسم وهي كثيرة في بطون جبال يافع الكثيرة وتشكل، إلى اليوم، مصدراً من مصادر مياه الشرب للقرى الجبلية المعلقة في رؤوس الجبال وبطونها كمسقط رأس يحيى عمر (بيت الجمالي) في رأس (حيد المنيفي).
    وفي إبحاره الممتع مع أشعار يحيى عمر اليافعي لا أدري كيف التبس الأمر على الأستاذ بدر بن عقيل في فهم معنى (المَكْلَةْ) الواردة في هذا البيت:
    قال يحيى عمر صادفت على "المَكْلَهْ" أربع
    مُسجَّدات النِّبع خلّين عقلي مضيّع

    فقد حرَّف كلمة (المَكْلَهْ) عن معناها وحوَّرها ليسقطها على (المكلا). ومع أن الكلمة وردت في كتاب (غنائيات يحيى عمر) - الذي استند عليه - واضحة ومشكَّلة وبين معقوفتين، فضلاً عن كون هذا التحوير قد أخل بوزن القصيدة، إلا أنه يقول: "أما في المكلا فقد قال قصيدة عميقة ومؤثرة في مستهلها، لكنها تحمل من الفرح والحيوية في أبياتها الأخرى، حينما صادف أربع من الغيد "المكلاويات" الفاتنات كل واحدة منهنَّ تتميز بحسن خاص"( ). وربما أن انعدام الحواشي في الكتاب لتوضيح الكلمات الدارجة قد جعله يقع في مثل هذا الخطأ أو اللبس. وقد دفعني هذا اللبس إلى هذا الإيضاح، لأن تلك القصيدة كما أسلفنا القول هي من عيون أشعاره المبكرة المرتبطة أشد الارتباط بالبيئة اليافعية وقد أفضى فيها لواعج حبه لمسقط رأسه وهو يتهيأ للرحيل عنه مكرهاً لا راغباً في ذلك.
    أما مدينة المكلا فنجد اسمها حاضراً في قصيدة أخرى ليحيى عمر حيث يأتي ذكرها إلى جانب بندر عدن في قوله:
    يحيى عمر قال والجوف امتلا
    بندر عدن والمكلا قسم ذا
    من ذا ومن ذا ومن هذا وذاك
    والسلطنه حُكمها من تحت ذاك

    أو قوله في قصيدة أخر:
    يا ناس عقلي مضيَّع عند ذا واسْهَرْتْ نومي عَطش من فِقْدْ ذاك
    بندر عدن و المكلا قِسْمْ ذا والقلب كِنَّهْ مُعَلَّق عند ذاك
    بين صنعاء وتعز والمخا
    هل عاش يحيى عمر في صنعاء؟ سؤال اختلفت الإجابات عليه. فالمستشرق الإنجليزي سرجنت يرى أن يحيى عمر في أغنيته "يالله يا من على العرش اعتليت" وأغنية "يحيى عمر قال قف يا زين" كان واقعاً تحت تأثير النمط والنكهة الصنعانية في الغناء( ). وهذا غير صحيح كما يرى الباحث الأديب د. نزار غانم ونتفق معه في رأيه هذا " فالمستمع اليمني يستطيع بسهولة أن يرى مكان أغنيات يحيى عمر في مقدمة النمط والنكهة اليافعية، وقد زاد الطين بلة حينما ذهب الصديق أحمد بومهدي إلى أن يحيى عمر قد وضع في صنعاء قصيدته التي يرد فيها عبارات مثل (جي بكره، شا نطعم، شا نلتم) أو قوله:
    ما شا قوت منّك ولا ذقت القوت
    شا فرتوت من مبسمك ذا الياقوت

    ولعمري فإن هذه الصياغة ليست مما عهدناه من أفواه أهل صنعاء ومن المؤسف أن يقع الزميل خالد بن محمد القاسمي في نفس الخطأ العلمي"( ).
    ربما يكون يحيى عمر قد مر بصنعاء حيث كان ديدنه الترحال الدائم, أما أن يكون قد عاش في صنعاء فهو احتمال ضعيف، ليس بسبب حروب الأئمة ويافع، لأن مثل تلك الحروب لم تكن مستديمة ولا عائقاً أمام تنقل الأشخاص، لعدم وجود بطاقات هوية أو جوازات أو نقاط حدود ومنافذ محددة للسفر. بل لأن يحيى عمر لو قدر له أن يعيش في صنعاء " التي حوت كل فن " لقال في غزلانها ما لم يقله في (الغزال اليفرسي)، ثم أن صنعاء لم ترد في أشعاره إلاَّ قليلاً، في إشارات عابرة كما في قوله:
    لو كان لي مَال صنعاء مارضيت
    أجني مَعَك بالعنب يا ذي جنيت
    يصبح بمُلكي وأرض المُوزعي
    ولا نهاب السِّيُوف القاطعي

    ولكن السؤال يظل، من أين جاءت إذاً تلك اللهجة؟!
    في معرض إجابتهم عن هذا السؤال يرى معدو "غنائيات يحيى عمر" أن الشاعر قد عاش فترة متفاوتة من عمره في قرية (عثارة)( ) واختلط هناك بأناس يقال لهم "الفقراء" جاؤوا من (يفرس) لجمع النذور للولي "أحمد بن علوان" في منطقة يافع وحلّوا ضيوفاً ثم استوطنوا وواجهوا بعض المصاعب وكان الشاعر متعاطفاً معهم وتأثر بمعتقدهم من خلال المعايشة التي تمخض عنها بعض القصائد منها "الغزال اليفرسي" و"إلهي وتجعل لي من الضيق مخرجا" اللتان طعمتا بلهجة المناطق الجنوبية من تعز بسبب المعايشة وكونه أمضى سنيناً من عمره في (يفرس) و(أرض الموزعي), مع استبعاد ذهابه وبقاءه في صنعاء للحروب الدائرة حينها بين الدولة القاسمية ويافع.( )
    وأعتقد أن ما ذهب إليه معدو "غنائيات يحيى عمر" هو الأقرب إلى الصواب لأن تلك اللهجة لا زالت شائعة إلى اليوم في كثير من مناطق تعز ومحيطها المجاور, كما أن التأثر بالشيخ الصوفي أحمد بن علوان ظل إلى وقت قريب، ولا يستبعد أن يحيى عمر قد زار ضريحه في يفرس تبركاً ومكث زمناً هناك. واستناداً إلى أشعاره التي ننشرها لأول مرة, فقد بات من المؤكد أنه زار تعز ومكث فيها فترة من الزمن لما عرف عنه من حب للتنقل والسفر من بلد إلى أخرى وقد نشأت بينه وبين هذه المدينة الجميلة علاقة حميمة, وترجم إعجابه بها وبحسناواتها بقصيدته (يا قمري تعز), التي يقول فيها:
    يحيى عمر قال يا قمري تعز
    ويش جَابك اليوم لا هذا المكان

    وأنتَ في ذه المدينة مُحترز
    ما بين دار الذهب والشذروان

    كما أفصح في قصيدته (يهناك الفرح) عن زمن مكوثه في تعز في زمن حُكم الإمام المهدي أحمد بن الحسن بن القاسم (1087-1092هـ), حيث كان شاهداً على سيطرة جيشه على المدينة, وعن هذا الحدث يقول:
    يحيى عمر قال يهناك الفرح
    يا فارس الخيل في ميدانها

    خَذت المدينه ونصرك قد فتح
    وطالع السّعد هد أركانها

    والمالك المهدي اطْرَبْ وانْشَرَح
    يوم انقضَتْ مِنْ تعز أشجانها

    سعده على سعدك اليوم انطرح
    أولاك أرض اليمن واحسَانها

    تعز عزك ولك فيها فلح
    بستان تقطف ثمار أغصانها

    وهكذا يُماط اللثام عن تأثر يحيى عمر بلهجة تعز ومحيطها, ومع أن القصيدة التي وردت فيها كلمات (جي بكره، شا نطعم، شا نلتم، شا فرتوت.. الخ) كما نعلم وكما يتضح من سياق الحوار الداخلي (الديالوج) الذي دار بينه وبين الفاتنة الهندية واستخدم فيه كلمات هندية، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنه قالها في الهند، ويذهب بنا ذلك إلى ترجيح أن يكون من نقل عنه قد كتب القصيدة محرفاً تلك الكلمات بلهجة منطقته، ومثل هذا التحريف والتحوير شائع بكثرة كما أوضحنا ذلك.
    أما المناطق أو المدن الأخرى التي ربما مكث فيها الشاعر فترة من الزمن وتركت تأثيرها الواضح في شعره بعد يافع وحضرموت فهي تهامة التي يأتي على ذكر كثير من مناطقها كاللحية وموزع والحديدة والمخا , وهذه الأخيرة فتنته وأسرته وتمكنت من شغاف قلبه فهام بها عشقاً صوره في بعض قصائده كقوله:
    قال لي أمانه وكم لك في المخا ساكن
    صاحي وساكن لا راقد ولا ذاهن
    فقلت من يوم قلبي عندكم ماكن
    كم لي وكم لي وأنا على بابكم ساهن

    وفي المخا نتعرف من شعره على قصة جرت له وصفها بالعظيمة وجعلته يستنجد بولي الله الصالح الشيخ أحمد ابن علوان الذي كان تأثيره الروحي كبيراً:
    يقول ابو معجب بعيد شعبان
    شُفت القمر شارق بسطح روشان
    ناديت أنا بالصوت يا ابن علوان
    قصه جرت لي في المخا عظيمة
    والشمس في الديوان مستقيمة
    عسى تكون سقطتي سليمه

    هل وصل إلى الشام ؟
    ما كنت لأطرح مثل هذا السؤال ولا أجزم أن كان يحيى عمر قد وصل إلى الشام. لكن ما دفعني لذلك هو أن بعض الأصدقاء( ) ممن مكثوا في دمشق لسنوات بعد أحداث حرب 1994م أكدوا لي أن هناك جادة في منطقة مساكن المزة بدمشق تحمل أسم ( يحيى اليافعي) , وهذا الأمر باعث للتحقق من دوافع هذه التسمية وهل لها صلة بالشاعر والفنان يحيى عمر الذي نجد في شعره نصيب للشام ولؤلؤة عقدها مدينة حلب. فها هو الشاعر لا يخفي إعجابه بـ (باشة حلب) التي صوَّر جمالها وعبر عن إعجابه بها وحبه لها في أكثر من قصيده:
    * يحيى عمر قال وارحب يا ضنين يا ميْر لبكار يا باشة (حلب)
    * أهواك يا زين يا باشة (حلب) لو كان تمطر نمش والاَّنصال
    * وقل لها ما تخاف الله أو ترحم ولهان من أجلها فارق بلاد الشام
    ومع ذلك تظل الإجابة الشافية مرهونة بمزيد من التحري والبحث في المستقبل لمعرفة صلته بالشام وفيما إذا بلغها في رحلاته وحظي بشهرة هناك .
    الهند في حياته وفنه
    الهجرة والاغتراب قدر اليمنيين منذ انهيار سد مأرب وتفرق (أيدي سبأ) في هجرات متعاقبة بدأت ولم تتوقف حتى اليوم إلى مختلف أصقاع الأرض. والهند بما تتمتع به من غناء وثروات كانت لقرون خلت - حتى النصف الأول من القرن العشرين - من أهم مهاجر اليمنيين، ومحط رحال الكثير منهم وخاصة من حضرموت ويافع.
    وقد اشتهرت الهند منذ العصور القديمة بغناها وثرواتها الأسطورية، ويورد الدنيوري (توفي مطلع القرن 15هـ/11م) في "الأخبار الطوال" بأنه عندما استفسر سيدنا عمر بن الخطاب - وقيل الخليفة الأموي الزاهد عمر بن عبد العزيز، وهو في الغالب الأصح – عن الهند من بعض التجار، سمع بأن (بحرها دُر وجبلها ياقوت وشجرها عطر). وبسبب ثرواتها المتنوعة الأصناف ينظر إليها من قبل الغير بنظرة "البقرة الحلوب" وهي كانت على هذا الأمر حتى تغلبت على خيراتها مشاكل تنبثق من كثافة السكان.
    وفي الهند لمع اسم العربي بصفة غير اعتيادية نظراً لمجهوده وصبره ومثابرته وذكائه، وكان غالبية العرب يعملون في الجندية، ولم يكن الجندي العربي غريباً على الهند، حيث أشار عدد كبير من المؤرخين والرحالة العرب من أمثال ابن بطوطة والأفرنج وغيرهم الذين زاروها عبر القرون عن وجودهم في جيوش وأساطيل حكام الهنود سواء كان الحاكم مسلماً أو هندوكياً( ).
    ومع انحطاط عصر الدولة المغولية في الهند برز دور العرب العسكري ووصل ذروته في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر في نشاطهم الملحوظ وثقلهم العسكري في مجموعة كبيرة من دويلات الهند.
    وهكذا ظلت الهجرة إلى الهند أملاً يداعب مخيلة الشباب اليافعي ومثله الحضرمي وهدفاً سعى إليه الكثيرون ممن ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم لعوامل الاضطراب السياسي والفتن والحروب القبلية والجفاف والمجاعات. وفي الهند وجد المهاجرون بغيتهم وحصلوا على أعمال كـ(عساكر) بصورة رئيسية، وإن عمل بعضهم في التجارة أو في مجالات الشحن والتفريغ في الموانئ أو رحالة على السفن، وأمَّنوا بذلك ليس فقط مصدر الرزق لهم ولأسرهم التي ظلت تعتمد عليهم، بل وسعوا إلى أن يحققوا ذاتهم فيما بعد في مسقط رأسهم وهو ما تيسر للكثيرين منهم، ولا زالت تنتصب في بعض قرى يافع الجبلية القصور والحصون اليافعية التي شيدت بأموال أولئك المغتربين في المهجر الهندي على مدى الثلاثة القرون الماضية، كشاهد على ذلك.
    ولاشك أن يحيى عمر، الذي افتتن بالسفر والتنقل منذ أن غادر مسقط رأسه، قد تاقت نفسه واشتاقت لهذا البلد الذي جذب وأسر الكثيرين قبله، فكان عليه أن يشد الرحال إليه. وهكذا وجد يحيى عمر نفسه في الهند بعد أن وصل إليها في رحلة طويلة مر خلالها على أكثر من بلد ومدينة، وقد مثلت الفترة التي قضاها هناك المحطة الأهم في حياته والأكثر خصوبة في إبداعه الشعري والفني، حيث عاش فيها حياة صاخبة مليئة بالفن والحياة وبالغموض والأسرار التي ربما ذهبت معه، وبقي أثرها فيما ينسج حوله من الحكايات التي تتناقل شفوياً، وهي لا تشفي غليل الباحث في شيء، بل إن بعضها يرتقي إلى مقام الأسطورة.
    عن تلك المرحلة كتب الأديب فضل النقيب يقول:" المرحلة الهندية في حياة يحيى عمر كان لها الأثر الأكبر في تكوين شخصيته الفنية وإثراء خياله وصقل موهبته, كما كان لها الفضل في شهرته التي تحملها الرياح إلى مدن الخليج العربي وموطنه الأصلي في اليمن. وفي الهند التي كانت سلطنات وممالك في ذلك الوقت من القرن الثامن عشر وقارة تعبق بالبخور وأطايب البهارات فتح ذلك الشاب القادم من اليمن عينيه على القصور العامرة ومواكب الحكام الباذخة ومظاهر الثراء والنعيم حيث عمل جندياً، ومن عادة الجنود أن يطلعوا على ما وراء الأسوار وأن يتبادلوا الأحاديث حول ما رأوا وما سمعوا وما تخيلوا، وهي إحدى متع الحياة في حياتهم في المهجر.
    ومن تأثيرات تلك المرحلة في أشعار " أبو معجب" ما طرأ على فن الوصف في قصائده من تحولات وتبدلات، مما يذكرنا بالشاعر على بن الجهم الذي وصف الخليفة بتشبيهه بالكلب في الوفاء وبالتيس في قراع الخطوب، الأمر الذي روّع بطانة الخليفة الذين أرادوا الفتك به نظراً لهذه الجلافة البدوية التي لم يألفها أهل الحضر، ولكن الخليفة ذا الأصول البدوية العربية أدرك بثاقب فطنته أن أخيلة الشاعر هي نتاج بيئته فهدأ من روع الجميع، وقال لهم دَعُوه واكرموه وسترون كيف يتلطف ويترقق بعد أن يتبغدد، ولمّا عاش الشاعر في بغداد ردحاً من الزمن إذا به يصدح:
    عيون المها بين الرصافة والجسر
    جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

    لقد زالت خشونة البادية ولكن صلابتها بقيت، وسادت رقة المدينة ولكن ميوعتها استبعدت، وهذا ما صار مع يحيى، فقد انتقى من بيئته القديمة أجمل ما فيها: الأنف خنجر لقطاع الرؤوس، وحاجبه مثلما ضوء الشموس، ومبسمه مثلما برق الغلوس، أي برق الليل لأنه يكون أشد وهجاً وأبهى منظراً، والصدر ميدان للضُمَّر تروس، أي للخيل المضمرة وهي عادة خيول السباق"( ).
    وهكذا مثلما "تبغدد" قبله علي بن الجهم فقد "تهنَّد" يحيى عمر، وهو ما يتضح جلياً في أشعار المرحلة الهندية التي تحرر فيها من القيود المفروضة على الشعر الغزلي في موطنه، بحكم ثأثير العادات والتقاليد، وشعره هنا أكثر طراوة وعذوبة ورقة بعيداً عن "برق الغلوس" و"الأنف خنجر لقطاع الرؤوس"، بحكم طبيعة المجتمع الهندي وعاداته التي لا قيود لها. وبلغ به التأثر حتى في لغته الشعرية التي مزج فيها بعض الكلمات من اللغة الأوردية، التي كان يجيدها بتأثير هجرته ومكوثه الطويل في الهند وتنقلاته وأسفاره الكثيرة بين مدنها وأقاليمها.
    يروي الفنان محمد صالح الحضرمي أن يحيى عمر "كان كثير الأسفار، يتنقل من بلاد إلى أخرى ويتزوج من كل بلد يصل إليها، وفي إحدى سفراته إلى الهند شاهد فتيات هنديات يحملن (جرات الماء( )) فأعجب بهن، وأخذ مكاناً قريباً منهن، وقال هذه الأبيات بالعربية ممزوجة بالهندية وهي:
    يا جاني الماء هات (باني)
    لا انتوا تحبوا الطرب والمعاني

    فأعجبن به الفتيات ونزل ضيفاً عليهن، وهكذا عاش يحيى عمر شاعراً فذاً خلَف لنا الكثير والكثير من القصائد العصماء"( ).
    لقد عاش يحيى عمر سنوات غير قليلة في الهند، يقدرها البعض بـ 16 عاماً، وربما أكثر، قضى شطراً منها عسكرياً، كما يتضح من أشعاره، مثل قوله:
    با بطِّل العَسْكَرَه واحرس عليك
    وأنت واجب تقرِّب في الوَعَد

    لكن طبيعته كفنان مرهف الإحساس لم تكن تنسجم مع طبيعة الحياة العسكرية، التي تركها بمحض اختياره، فتفرغ للفن والشعر وكان من عادته ألاَّ ينام حتى يقضي وقتاً في العزف والغناء، وقد تنقل كثيراً بين مدن الهند وزار مسقط رأسه أكثر من مرة، وعرج على بعض البلدان والموانئ المجاورة، لكنه كان يعود إلى الهند التي طاب له المقام فيها متنقلاً بين أكثر من مدينة مثل كلكتا ومدراس وحيدر آباد وبرودا، وأجاد اللغة الأوردية وغنى بها هناك، ويبدو تأثير الهند جلياً في كثير من أغانيه، التي يطعمها بكلمات هندية, كما في قوله:
    يحيى عمر قال أمانه يا هنود
    هل هي من الهند والاَّ من سِنُود
    عبرت ليله وانا اسمع صوت عود
    وقفت عالباب وهزَّيت العمود
    قولوا لنا بنت من ذي الهنديه
    تعرف رطين العرب بالهنديه
    في قصر عالي والحان ساريه
    قالت "كياهي" خبركم غاويه

    وكلمة "كياهي" الأوردية تعني "ماذا تريد" أو "ما الخبر". كما نجد مثل هذه المزاوجة بين اللغتين العربية والأوردية الهندية في قصيدته الشهيرة "يحيى عمر شل الدَّان"، حيث يقول فيها:
    بعد الآن، يحيى عمر شل الدان
    ما يهتان، لله من ذا الهندي
    مثل الشاش، أبيض منقرش نقراش
    في الفتان، هندي ملك هندستان
    حاضر باش، هندي برابر شاباش
    عقلي طاش، مسكين انا ما جهدي

    ومن هذه القصيدة نعرف أيضاً أن يحيى عمر قد عمل حينها "جندياً" لفترة هناك كغيره من اليمنيين، وهو يظهر فيها جرأة وشجاعة الجندي، حتى بلغت به هذه الجرأة الوصول إلى عقر دار محبوبته، بل وذهب فيها إلى الإفصاح دون مواربة عن الميل الجنسي، وهو ما يؤخذ عليه من قبل البعض لمجاهرته بالخطيئة، مع أن القطع بصحة حدوث ذلك في الواقع غير مؤكد، كما في قوله( ):
    قلت اسمع، صاحب "شلوه" قم اطلع
    لا تمنع، من العرب لا تفزع
    لا تفجع، هذي بلاد الهندي
    جوَّب قال: "صبر كرُو" يا رجال
    كيف أحتال، ذلحين زوجي وصَّال
    والجهال والجارية ذي عندي
    جي بكره، شافعل لزوجي مكره
    في السَّكره، نسمر ونرقد مرَّه
    في الحجره، وا عوضك يا (جندي)

    وقد استعمل هنا كلمة "صبر كرو" وهي لفظة هندية معناها "وتحلَّ بالصَّبْر". وربما أن المرأة لم تقل هذا وإنما قوَّلها الشاعر لتكوين حوار بين قلب ولهان ووجه معشوق، فجاء ذلك الوصف من نسج خياله، ويبدو أن اللقاء بالحبيب والوصول إلى مضجعه أقرب إلى التقليد لنصوص غزلية من التراث، ومثل هذا نجده لدى غيره من الشعراء. فمحمد الشاطري وهو من رجال الدين يرى أن القبلة لا تتعارض مع العفاف كقوله:
    يقول لي المحبوب لمّا لثمته
    أجوّز هذا يا محمد ربنا؟
    ولا ذنب في عشق العفاف لعاشق
    وقبلت فاه وهو كالبدر سافر
    فقلت لـه: ربي لمثلي عاذر
    ومفتيك في هذا فقيه وشاعر( )

    إن أشعار يحيى عمر في المرحلة الهندية تكشف عن عواطفه العنيفة وتجاربه ومغامراته التي يبدو فيها وكأنه "دنجواناً" انغمس في حياة اللهو والهوى للارتواء من ينابيع الحب، وتجفيف عطش السنين. ومع ذلك فأن حياة المدن الصاخبة لم تجرفه أو تفقده صلابة الجبال المهيبة التي نشا فيها أو تزيح حبه الأول. بل ظل يحيى عمر يحمل الوطن في حناياه وفي تلابيب قلبه، وكلما نأى به الزمان والمكان عنه، ازداد لوعة وصبابة وهياماً به، فلم تمض سوى ثلاث سنوات على غربته في الهند حتى تنازعه الشوق للوطن، رغم ما هو فيه من رغد العيش، فأخذ يتطلع إلى المركب الهندي الذي تمنى أن يكون أحد ركابه إلى (بندر عدن) ولو كلفه ذلك دفع (زايد ثمن)، رغم أن الثلاث سنوات قد أمضاها مع (حُمر الوجن) وله ما شاء من (الخمر والعسل واللبن) وهذه كناية عن أنهار الجنة الثلاثة، وكأنما أراد أن يقول إنه في الجنة، لكنها مع كل ذلك ليست معادلاً للوطن الذي سكن حبه في فؤاده ويجري مجرى دمه ويحظى لديه بأعلى مراتب الحب، ويمثل بالنسبة إليه دواء للروح وبلسماً شافياً:
    يحيى عمر قال لا بندر عدن
    تجمَّل اليوم خُذ زايد ثمن
    با داوي الروح من جو اليمن
    يافع حلالي لـه الوجه الحسن
    وكيف با أنساه وحُبَّه قد سكن
    وا مركب الهند ليتك عازمي
    وشل عاشق مولع هايمي
    منه علاجي ومنه بلسمي
    حلاوة اسمه حلا يملأ فمي
    داخل فؤادي ويجري في دمي

    لقد ظل متعلقاً بمسقط رأسه ومشدوداً إليه بوشائج قوية، لم توهنها حياة الدعة والراحة ورغد العيش ومباهج الحياة الكثيرة التي صادفها في مدن الهند الكثيرة (دلهي، ممبي، كلكتا، مدراس، حيدر آباد، برودا، بونه..إلخ) التي عرفها وعرفته شاعراً عاشقا وعازفا وملحناً وفناناً يأسر الأنفس ويشجي قلوب العاشقين الملتاعة والغارقة في بحر الهوى، أو في غيرها من البلدان والمدن والمراسي (عمان، البحرين، البصرة، فارس.. الخ) التي قصدها أو مكث فيها في تنقلاته وأسفاره الكثيرة. وظلت روحه الهائمة تحلق في سماء الوطن وتحط الرحال عبر الأثير في كل شبر منه، يساعده في ذلك هاجسه الشعري المتوقد الذي يطوي به المسافات ويقرب بينه وبين وطنه في أسرع من لمح البصر:
    ذكرت واشتاق قلبي لا جبل يافع
    للأرض ذي حلّها كمّن نمر شاجع
    لأهل النِّصَل والسَّلب باروتهم والع
    مشتاق للأهل والأحباب والخلان
    لضيفها نور أما للعداء نيران
    لا اهتانت الأرض ما من يافعي يهتان

    ويصح القول عن يحيى عمر، الطائر المهاجر المغرد بحب الوطن، ما قاله أديب اليمن الكبير عبدالله البردوني: "إن اليمني لم يتخل عن يمنيته ولا تخلت يمنيته عنه، حتى إن الغربة أنتجت الأغاني الشعبية وأرغدها إبداعاً، باعتبارها من أعظم الأحداث المثيرة للأشجان، فقد تنفست المراتع والحقول بالأشجان الملحنة وكأن كل مكان ينادي إلى الإياب، كما أن كل مهجر يذكر بوجه الوطن"( ). وها هو "أبو معجب" في مهجره الهندي يستحضر الوطن ، يتنفس أريج هواه، يتدثر بخضرة مزارعه ويرقص قلبه طرباً وشوقاً إليه (على شُبابة الرعيان) التي كانت أول أداة موسيقية يعزف عليها وصاحبت أولى بروفاته في التلحين والعزف في ربيع شبابه حين كان يرعى الغنم، قبل أن يصير فيما بعد، هنا في الهند (عازف القيثار الشهير) أو "المقنبس" نسبة إلى إتقانه العزف على آلة القنبوس:
    ولو ترى الواد زارع والجبل زارع
    ترى مناظر يعانفها الهواء الصَّاقع
    ترقص غصونه على شبابة الرعيان
    سقاها ربي بهطل الغيث من لمزان

    كان الفنان يحيى عمر يعزف على آلة "القنبوس" ويخرج من نغمات أوتار هذه الآلة الألحان اليافعية البديعة والعذبة، التي طورها من خلال غزلياته التي أبدعها وخرج فيها على مضمون قصائد عصره. ولاشك أنه كان يجيد أيضاً الغناء الهندي وكان الهنود يطربون لألحانه التي يغنيها ومن هنا نستنتج كثرة الحكايات والقصص في المرويات الشعبية عن مغامراته العاطفية وإعجاب الفاتنات الهنديات به وبفنه. وقد حاولت الهند بجمال طبيعتها الآسرة وبكل ما فيها مما لذ وطاب أن تستأثر بحب يحيى عمر, وتنسيه وطنه، ورغم كل الإغراءات التي قدمت له لم تفلح في ذلك، وظلت اليمن عموماً, ومسقط رأسه "يافع" خصوصاً حبه الأول والأخير.
    وأجزم أنه لولا الهجرة والاغتراب لما تفتحت قريحته وأبدع هذه القصائد العذبة والألحان الرقيقة التي ما زلنا نتغنى ونصدح بها رغم مرور أزمنة متعاقبة على عصر الشاعر الفنان يحيى عمر.

    (البقية في صفحة أخرى)........................
    [IMG]
    [IMG]
    • :: إدارة المجلس ::

    بجاش

    • المستوى: 8
    تاريخ الإنضمام:
    ديسمبر 28, 2007
    عدد المشاركات:
    7,326
    عدد المعجبين:
    964
    مكان الإقامة:
    قطر
    اهلا بالدكتور علي وبإبداعاته المتجددة اسعدتنا بهذه المعلومات وابيات القصيد للشاعر ذايع الصيت في الجزيرة والخليج يحيى عمر رحمه الله واسكنه فسيح جناته
    • :: الأعضاء ::

    د-علي صالح الخلاقي

    • المستوى: 1
    تاريخ الإنضمام:
    إبريل 28, 2012
    عدد المشاركات:
    36
    عدد المعجبين:
    13
    شكرا لك أبا عبدالعزيز على مرورك وعلى ما تقوم به في خدمة هذا الموقع وابرازه بالشكل اللائق.. والملاحظة التي ينبغي التنويه إليها أن الأبيات الشعرية لم تظهر منسقة كما في الأصل..بل جاءت الأشطر الأولى متتابعة مع بعضها .. فيما الأشطر المقابلة جاءت بعدها متتابعة مع بعضها (فكأن الأشطر الأولى في واد والأشطر الأخرى المكملة لها في واد آخر).. ولا أدري هل يمكنكم تعديلها... وشكر لكل الأعضاء والزوار..
    • :: الأعضاء ::

    د-علي صالح الخلاقي

    • المستوى: 1
    تاريخ الإنضمام:
    إبريل 28, 2012
    عدد المشاركات:
    36
    عدد المعجبين:
    13
    الجزء الثاني من دراسة عن الشاعر الفنان يحيى عمر ىاليافعي:
    ___________________________________
    المرأة في شعره
    المرأة - كما يرى بعض النقاد – هي صنو الطبيعة وكمالها. وهي كل معنى جميل، ومصدر الهام لكل شعراء الغزل الذين لا يحلو لهم شيء مثلما يحلو لهم الحديث عن المرأة والتغني بمفاتنها ومحاسنها الداخلية والخارجية. والغزل من أقدم وأكثر المواضيع التي طرقها الشعراء، لأنه من اصدق أغراض الشعر وأقربها إلى النفوس. ويحيى عمر اليافعي سليل مدرسة العشق في الشعر العربي، التي اشتهر شعراؤها بالغزل العفيف أو بما عرف بـ"الحب العذري"، لذلك نجد أن المرأة هي الحاضر الأكبر والأجمل والأرق في جميع أشعاره.. هام بها وعشقها بعنف وتغزل بمفاتنها بأسلوب حسي صريح وواضح، وكان في شعره صادقاً في تصوير الخصال التي ينشدها في المرأة، وهي قلما تجتمع في امرأة واحدة، كما كان بارعاً وعالماً بالمداخل المؤدية إلى قلوب الحسان. ولم يظهر قبله شاعر خصص جميع شعره للغزل، لذا فشاعرنا - كما يصفه الكاتب الأديب فضل النقيب- ينتمي إلى قبيلة "المجاذيب" الذين لا يرجى شفاؤهم في الحب من أمثال مجنون ليلى وكثير عزة ونزار قباني، ولكنه لم يكن عاشقاً لامرأة بعينها، فقد كان متيماً بالجمال الأنثوي، سواء لمع من جبين امرأة بيضاء أو فتر عن ثغر أملودة سمراء أو فاح من أردان لؤلؤة سوداء أو ثوى من مقلة غصنية خضراء، كان شاعر المرأة بامتياز يوشيها ويوشوشها، يحمل لها المرايا لترى أجمل ما فيها( ).
    لقد أبدع يحيى عمره في تغزله بالمرأة، وصنع لها أجمل المرايا التي تتلألأ فيها مواطن الحسن والجمال والدلال التي ينشدها فيها، وهنا لا مكان للقبح، لأن الحب- كما يقال - يعمي المحب عن كل سيئة في محبوبته ويحجب النقائص:
    يحيى عمر قال ما شأن المليح
    لمه لمه يا حبيبي ذا الجفاء( )

    ليس أنبل وأسمى وأقوى من الحب، فكل شيء يصبح له طيعاً حينما يختلج القلب بعواطفه الجياشة، ويسمو بالمحب إلى قمم السعادة والهناء. وتبقى مملكة الحب أسعد الممالك، كما يقول نزار قباني، وهاهو يحيى عمر قد شيّد قبله بثلاثة قرون دعائم مملكة الحب التي سيظل يحتفظ فيها بسلطته لزمن طويل، لأن لديه كل مقومات البقاء على شرب الحب، وقد سبق نزار في تعاطي الحب بالأسنان والأظافر وتخلص قبله من ميراث القبيلة وشريعتها في الحب وأعاد للحب شرعيته، وتمرد على العادات والقيم القبلية التي ترى في ذلك ضرراً, ومزق الأقنعة وأستار التشدد إزاء هذا الصنف من الشعر الملحون، بل وذهب في سبيل الوصول إلى المحبوبة ونيل رضاها إلى أن يبالغ في تصوير معاناته لاستدرار عطفها وبلغ به الأمر أن يقرر ترك عمله كجندي ويكتفي بحراستها فقط. ورغم أن " التذلل للحبيب من شيم الأدباء " إلاّ أن يحيى عمر لا يقبل على نفسه مثل هذا التذلل أمام من يحب, بل يبدو معتزاً بنفسه، وحين لم يجد تجاوباً، فأنه لم يطق تجاهلها وصدها له فلجأ إلى منطق القوة، حتى بلغ به الأمر تجييش القبيلة لنصرته:
    فقلت والله لا اقلِبْهَا عليك
    وأحمل بيافع بني مالك عليك
    ما تدري إلاَّ وهي حَمَلتْ عليك
    من المخا لا الحديده لا العند
    أهل الشنع والبنادق والعدد
    واعرِّفك كيف هي حملةْ ولد

    إن من عادة العشاق, في كل زمان ومكان، عبادة الحبيب والصلاة في محرابه، فهذا قيس ابن الملوح أو (مجنون ليلى) يجعل من حبيبته قبلته في الصلاة:
    أراني إذا صليت يممت نحوها
    فو الله ما أدري إذا ما ذكرتها
    وما بي إشراك ولكن حبها
    بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
    أثنتين صلّيت الضحى أم ثمانيا
    كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا

    لقد أفرط قيس هنا إلى حد الانحراف حيث عد حبيبته قبلته في الصلاة، ويعتبر البعض ذلك تطرفاً سلوكياً وانحرافاً نفسياً، يبين بوضوح مدى سيطرة الانفعالات والعواطف وغلبتها على شخصيته. وصدق ابن حزم القائل: "حسب المرء أن يعف عن محـارم الله التي يأتيها باختيـاره .. أما استحسـان الحُسن وتمكن الحب فطبع لا يؤمر به ولا ينهى عنه إذ القلوب بيد مقلبها ". وقد كان شاعرنا " أبو معجب " عاشقاً مطبوعاً، لكنه ظل مسيطراً على انفعالاته وعواطفه، وصوّر ما يجيش في قلبه من صبابة ولوعة بصدقه العاطفي وبطريقة غير فجة أو متطرفة، حتى وهو يبلغ من العمر عتيا، والمعروف أن الشعراء في شيخوختهم يقل اهتمامهم بحب المرأة، وتبعاً لذلك يقل تغزلهم بها، أما يحيى عمر فعلى العكس من ذلك، إذ يقول:
    قال الفتى يحيى عمر
    لي بالعمر تسعين لــ
    قلبي تـولاَّه الطـمع
    ـكن عاد قلبي ما قنع

    إن غزلياته لا تبلى بمرور الزمن، بل تتردد في خفقات قلوب العاشقين وهمس الروح ومناجاة النفس لأنها تفيض بالرقة والعاطفة والشجن واللوعة وتدخل البهجة والسرور إلى القلوب. وقد تعددت النساء اللاتي تغزل بهن، حتى ليبدو لنا يحيى عمر واعظاً يتلو خطاب الحب، يحذر وينذر من الدخول في بحر الهوى الذي عانى منه, حيث النساء ألوان، البيضاء والخضراء والسمراء والحمراء:
    اتبع هوى البيض جُمله واعشق الأخضر

    وساير السمر والأحمر كذاك خلّه

    الخضر دلّه وفيهم نفحة العنبر

    والبيض يسلوك للسمره وللقيله

    اسمر مع البيض كم يحلى به المسمر

    والشمع يزهى إذا شاف البهاء مثله

    هذا وهذا وهذا حبهم يسحر

    يا من دخل في هواهم تيهوا عقله

    وتظل المرأة في غزليات يحيى عمر هي السلطان المتوج والآمر الناهي الذي لا يعصيه أحد في مملكة الحب، بل الكل يخدمه في حصنه العالي، الحاشية والوصيفات والخدم وهي صورة نجدها لدى غيره من الشعراء تبين بوضوح أثر الثقافة التي كانت سائدة حينها:
    يا ليت أنا عبدك المملوك وأنتَ لي السيد
    بل أنتَ سيدي وسيد الكل يا ظبي عيديد
    ولا تعذب ولد يافع بكثر التهاديد
    شُوفك بعيني الوحيد
    احكُم على ما تريد
    لو كنت شاجع وجيد

    إن غزله يميل إلى العفة ويفيض بالعاطفة والشجن واللوعة، وكان مغرماً بنمط من الألفاظ كما في قوله:
    خدلَّج أزج أبلج غَنَجْنَجْ مُغَنَّجَا
    وقد رَجّ قلبي رَجّ صوت الدَّمالجي

    إن هذه الكلمات عربية فصيحة، وليست كما يرى البعض ألفاظ غريبة بقصد إظهار مقدرته( ). أو كما يرى آخرون أنها "من اللغة الفارسية التي يبدو تأثيرها واضحاً في الهند، وبدورها انعكست على أبناء الجالية اليمنية هناك وعلى شعرائهم"( ). وللتدليل نعود إلى (لسان العرب) لابن منظور لنقف على المعاني الفصيحة لتلك الكلمات على النحو التالي:
    خدّلج: الَخَدلَّجة، تشديد اللام: الرَّيَّاءُ الممتلئة الذراعين والساقين، وأنشد الأصمعي:
    إنَّ لها لسائِقا خَدلَّجا,
    لم يُدْلج الليلة فيمن أدْلَجا

    أزج: رجل أزَجُّ طويل الساقين، بعيد الخطو. والأزَجُ: الحاجب، في لغة أهل اليمن. زَجَّ بالشيء من يده يَزُجُّ زَجَّاً: رمى به، والزَّجُّ: رميك بالشيء تزج به عن نفسك. الأبْلَجُ: الأبيض الحسَنُ الوجه، يكون في الطول والقصر. وأبلج الحق: ظهر ووضح. غنج: امرأة غنجة: حسَنة الدَّل. وغُنْجُها وغُناجها: شكلها، الأخيرة عن كراع، وهو الغُنْجُ والغُنُجُ, وقد غَنِجَتْ وتَغَنَّجَتْ، فهي مِغْنَاج وغَنِجَة ؛ وقيل الغُنْجُ ملاحة العينين. الغَنَجُ في الجارية: تكسّر وتَدَلُّل. قال ابو ذؤيب:
    لوى رأسه عني ومال بوُدِّه
    أغانيج خَوْدٍ، كان فينا يزورها

    امدمالجي: هي الدمالج، والدُّملج والدُّمْلُوج: المعضد من الحُلي، ويقال القى عليه دماليجه. وعلى هذا المنوال نسج البعض قصائدهم مطرزة بمثل تلك الألفاظ، متاثرين بشيخهم يحيى عمر، كما في قول الشاعر المرحوم صالح سند:
    من بحر رجرج خرج ينهج من الطلسم
    خُدلج أبلج مدملج حالي المبسم
    ضَم الحياطات والشارات والبرهان
    غنج الغنج لا تغنوج ما ترى لسنان

    إن شعر يحيى عمر يذوب رقة وعذوبة، ويرجع ذلك إلى البيئة الهندية التي أثرت على شعره وفنه، لكنه لم ينسلخ عن ثقافته وتراثه العربي اليمني، ولذلك لا نجد في أشعاره ما يدل على المجون والهتك للنساء وتصديه لهن، كما فعل امرؤ القيس حتى اضطر أباه إلى خلعه. وحتى الحكايات الكثيرة عن يحيى عمر التي تتصل بلهوه وغزله وفتنته بالنسوة وما إلى ذلك، يكاد الكثير منها يدخل في باب الأساطير. وهكذا فإن وصف علاقاته الحسية لا يقصد بها حقائق واقعية، ولكنها مجرد وصف لعلاقات من نسج الخيال، ومثل ذلك أمر معروف لدى الشعراء الغزليين كما أسلفنا. وإذا ما جمعنا المحاسن المرئية والمحسوسة لوجدنا أن يحيى عمر قد أفاض في وصف جمال المرأة والإغراق في تشبيه جسدها جزءاً جزءاً. ونستطيع من قراءة أشعاره أن نكوِّن صورة مجسمة وواضحة للمرأة التي هام وأفتتن بها يحيى عمر، فهي من حيث اللون: بيضاء أو خضراء أو سمراء، لكنه يفضل البيضاء، أسوة بسلفه الشاعر الكميت بن زيد القائل:
    طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب
    ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

    والمعروف أن شعراء الغزل قد فضلوا اللون الأبيض في المرأة لدلالته على الثراء ورغد العيش، ولم يشذ يحيى عمر عن ذلك، وإن كان يتأرجح أحياناً بين الخضر والبيض، ففي البيض يقول:
    اليوم هذا قد صدفت الزين لبيض قد جزع

    وأنا بصلي ما دريت إلاَّ وهو عَرْضِي نَكَعْ

    أما الشَّعَر فأسود " كليل الدجى المظلم" أو "أسود من الكحل " كثيف وطويل ومنظوم في ضفائر مرسلة:
    نَسَعَتْ على أمتانها سُود الجعُود
    عشرين سينه ضفائر ملوية

    والغرة كالقمر أو منها يضئ القمر، والخد المتورد والأنف الرفيع كحد السيف والأعين الحمراء, كما سيأتي الحديث عنها بالتفصيل، والأسنان الناصعة البيضاء مثل "شُخب الحَلَب"، والرضاب (الريق) كالعسل الصافي أو من عسل "جردان" الشهير، وليس كما لدى الشعراء الجاهليين خمرة، أو خمرة وعسل، والجيد طويل كعنق الغزال، والصدر الممتلئ كبستان فيه الخوخ والرمان أو اللؤلؤ والمرجان، والخصر الضامر والعجيزة والأرداف المكتنزة والسيقان الجميلة المزدانة بالحجُول..إلخ. والأوصاف التي حشدها لكل تفاصيل وتقاطيع المرأة تكشف عن مقاييس الجمال في عصره، التي تركز على المظاهر الحسية أو المحاسن الخارجية، وهو ما لا نجده إلاَّ قليلاً في تصوير المحاسن الداخلية.

    لماذا افتتن بالأعيان الحمراء؟
    *واعيان حمراء بيلحظني بهن يبلي
    *وتكحل أعيان حمراء مشرعه بالدم
    *يا من لك اعيان حمراء تلمعي
    *وأعيان حمراء كما جمر اللهب
    *واعيان حمراء شبيه النار ذي تقتل
    * والموت بأعيانه الدّعْج النعُوس
    يا غارة الله منها لحظة اعيونه
    اذا حزر طار من طرفه شرار اسهام
    رد السَّبَل لا تخليهن مُباح
    لمع النظر برق يلمع بالخصيب
    من يوم شفته بعيني طفأ المصباح
    حمراء سكارى فواتر لُعَّسي

    هام يحيى عمر بالأعيان الحمراء وأسرته بلمعانها وحرارتها التي كان وقعها عليه كالسهام أو كجمر اللهب. فمن أين جاء هذا التشبيه ؟ الذي يخالف ما ألفناه لدى غيره من الشعراء الذين تأسرهم أكثر العيون السود، الكحيلة، أو الدَّعجاء (الدَّعج هو شدَّة سواد سواد العين وشدة بياض بياضها ؛ وقيل شدَّة سوادها مع سعتها). أو الحوراء وهي التي يشتد بياضها ويشتد سوادها وتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيضَّ ما حواليها. قال تعالى:" وحُورٌ عِينٌ كأمثال اللؤلؤ المكنون ". أو قول بشار بن برد:
    إن العيون التي في طرفها حور
    قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

    لكن شاعرنا يحيى عمر اختار الأعيان الحمراء دون غيرها.. فلماذا هذا الاختيار لديه ؟. هذا السؤال حاول الإجابة عليه أكثر من واحد لكثرة ورود هذا التشبيه في أشعاره وقد احتار المفسرون واختلفوا فيما ذهبوا إليه، فمنهم من يرى أن المقصود بها العيون العسلية لجمالها الأخَّاذ، أو ربما أن هذا الوصف مرتبط بالنقوش الحمراء الدائرية التي كانت النساء في يافع يتزيَّن بها( ). ويربط البعض هذا الوصف بنساء طائفة من الهنود هن أجمل نساء الهند ولهن عيون مشربة بحمرة خفيفة ساحرة هي أقرب أن تكون وردية ويحطنها بمساحيق حمراء حول العينين وفي الوجنتين( ).
    والحقيقة أن يحيى عمر لم ينفرد وحده في هذا الوصف، سواء في يافع أو في الهند، حتى نسلم بصحة هذه التفسيرات. فمن الواضح أن هناك من سبقه في هذا الوصف كالعلامة أبوبكر العيدروس (توفي نهاية القرن التاسع الهجري) الذي يقول:

    ذا بطرفك زهر نرجس
    ماء ونار قد تجانس
    أو عسى هي حُمرة العين
    ألَّف الله بين ضدين

    كما نجد مثل ذلك الوصف يتكرر أيضاً لدى شاعر آخر هو الشاعر عبدالله بن علوي الحداد الملقب بـ"خُو علوي" (توفي 1157هـ) يقول:
    يقول "خُوعلوي" رعا الله زمان
    عذبتني يا نصلة الهندوان
    يا من جبينه مثل نشو المزان
    والعجز مركب شحنته من عُمان
    قد مَرَّ يا واشم كحيله
    يا زهر مثمر وسط خيله
    وأعيان لـه حمراء كحيله
    والنوخذه شيخ القبيله( )

    وهذا هو الشاعر الشهير المرحوم أحمد بن ناصر بن هرهره، الملقب "بن زامل" يقول:
    وأعيان له حمراء زواكي زاكية جُوف الغُدَر

    ومبسم أحمر ذي تغطيه الزبيبه لا كَبَر

    وسار على هذا المنوال في وصف العين الشاعر المرحوم حسين صالح الحِمْيَري, ففي قصيدة له يقول:
    جبينه المزن لَبْيَضْ ذي في المزن رفَّين
    وأعيان حمراء حرسها الله رمتني بسهمين
    حمراء شحاطر من الدم النحير ابيفيضين
    يشتاف به لمعتين
    أصوابها يقتلين
    تقول ذه زهرتين

    لقد أجاب الحِمْيَري عن ذلك السؤال الذي حيَّر الكثيرين، وأفصح هنا بجلاء عن كنه العين الحمراء, التي تغزل بها مثله مثل يحيى عمر وشعراء آخرين. إنهما العينان المشربتان بحمرة الدم (حمراء شحاطر من الدم) وكأنهما زهرتين جميلتين. وهكذا نقف على حقيقة افتتان يحيى عمر وغيره من الشعراء بالأعيان الحمراء، بأسرارها العجيبة وإشاراتها المحددة، لأن حُمرة العين هي من علامات الجمال كما يقول عبدالله البردوني، وربما كان هناك نزوع فطري إلى جماليات الحمرة، وأغلب الذين أجادوا وصفها والوصف بها، هم أصحاب المزاج الأريحي( ).
    ولا صلة لحمرة عين المرأة التي تغزل بها يحيى عمر وغيره بالوصف المألوف للرجل "أحمر عين" لأن هذه كناية عن الرجل الشجاع والذكي بغض النظر إن كانت عيناه حمراء أو غير ذلك. وهكذا، نجد أن القصائد الغزلية هي الطاغية في أشعار يحيى عمر التي لا تخلو من عواطفه الصادقة ومشاعره الرقيقة تجاه المرأة وإبراز مفاتنها التي يعرج على ذكرها بالتفصيل الدقيق، وقد هام العرب بذلك عبر الأزمان، والفرق هو في أهمية هذا العضو أو ذاك لدى هذا الشاعر أو ذاك.
    الحكمة والقيم الاجتماعية والدينية
    للحكمة مكانة رفيعة في التراث الشعبي اليمني، لأنها تمثل خلاصة التجارب والعبر المستوحاة من الحياة والمعاناة. وفي شعر العلامة الشيخ يحيى عمر تتجلى القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية التي لم تغادر وجدانه، حتى في غمرة حياته الصاخبة التي فرضتها طبيعة المجتمع الهندي، لأنها قيم جبل عليها منذ طفولته ورسختها الأيام في سلوكه وتفكيره، وظل متمسكاً بها منذ مغادرته مسقط رأسه لأول مرة:
    يحيى عمر قال يا "بيت الجَمَالِيْ " مُوَدَّعْ
    رزقي على الله والأرزاق ما شي بتُقْطَعْ
    والجِيْدْ من شِيْمَتَهْ يقطَع بنفسه ويِشْرَعْ
    سَرَحَتْ منَّك ومنَّك من سَرَح لَيْكْ يَرْجَعْ
    أنا توكَّلت عالمولى وأرض الله أوْسَعْ
    ماشي حَدَا عاد يِحْنَبْ فيه يبزق ويَرْقَعْ

    ومعظم قصائده تستهل بذكر الله ووحدانيته والتأمل في خلقه وما أنعم على البشر, ثم الصلاة والسلام على النبي محمد . وهو استهلال لا يدل, عادة, على موضوع القصيدة, لذلك لا يفضل أن نسمي القصائد بها. أما موضوع القصيدة فينتقل إليه مباشرة بعد ذلك ببراعة, حيث تنساب كلماته رقيقة, عذبة اللفظ واضحة المعنى، تجذب السامع إلى الإصغاء باهتمام كبير ؛ وقد تأتي بعض غنائياته خالية من ذلك الاستهلال المألوف والمتعارف عليه إلى اليوم في كثير من الأشعار الشعبية. وكذلك الحال بالنسبة لختم القصيدة فقد ينهيها بالصلاة على النبي بعدد قطرات المطر أو بعدد ما تسبح أو تغرد الطيور أو ما يلبي الحجاج ويطوفون بالكعبة المشرفة.. إلخ.
    ورغم شهرة يحيى عمر بالغزل، إلاَّ أن قصائده لا تخلو من حكمة بالغة أو تلميحات لها، يصوغها في قالب نصائح ويتوجه بها إلى الناس. كما في قوله:
    يحيى عمر قال خل الحال مجمولا
    ولا تسمع كلاماً جاك منقولا
    بينك وبين الذي لـه عقل مجهولا
    وخل سترك وستر الناس مسبولا

    إذا قضى الله أمراً كان مفعولا
    اشكي إلى الله لا تشكي إلى مخلوق
    يأتيك حكم القضاء لو كنت في صندوق
    ما ينفعك آدمي لو كنت في خازوق
    والخير والشر من مولاك مرسولا

    إذا قضى الله أمراً كان مفعولا
    وقد يأتي بالحكمة على شكل وصايا يتوجه بها للسامع، كما في قوله:
    وبعد أوصيك تحفظ لي وصَايا أرْبَعْ
    وثَاني أوصيك تحفظ لي وصايا أرْبَعْ
    وثالث أوصيك تحفظ لي وصايا أرْبَعْ
    ورابع أوصيك تحفظ لي وصايا أرْبَعْ

    أوَّلهِنْ النَّذل قُرْبَهْ يِنْقِصْ الواحد
    إنْ كُنت قاعد فبَين النَّاس كُنْ واحد
    إحْفَظْ لسَانك ولا تِهْرِجْ على واحد
    القيل والقال ما يعلُو به الواحد

    وفي حثه على التَبَصُّر في الأمور والتمسك بالصبر والتحذير ممن ينكث بالوعد كقوله:
    أوصيك بالصبر مَنْ شَلَّهْ نَجَدْ
    وأحْذَرْ من إنسَان يخلف لا وَعَدْ
    من سار بالصَّبر يأوي مستفيد
    كلامه النُصْ يِنْقُصْ ما يزيد

    أو كقوله في قصيدة أخرى تفيض بالحكمة والنصائح:
    لا تصحب إلا الذي في حاجتك ينفع
    واحذر من الفسل لا ينفع ولا يشفع
    قد قال لقمان لابنه من بزق يرقع
    وصبِّر النفس عند الغيض واتوقع
    عزام جزام ما يخرج في القانون
    ولا تلاقيه واسمه عندنا الكيهون
    وكُن جليس المعالي لا تكُن من دون
    الصبر حكمه ولو هو من صبر ممحون

    كما تكشف قصيدته "نبدع بالذي صوَّر وتمَّم" التي تعد أطول قصائده وتتألف من 150 بيتاً, ثقافته الدينية العميقة والمامه بخلق الكون وقصص الأنبياء والصحابة.

    عزف القيثار (المقنبس) في المصادر المكتوبة
    الإشـارات المكتوبة عن يحيى عمـر قليلة جداً , لكنها مع ذلك تفصح عن حقيقة هذا الشاعر والملحن والمطرب الذي أجاد العزف والغناء , حيث نعرف أنه كان متمكناً من العزف على آلة القنبوس , يؤكد ذلك ما أورده دي. سي. فلوت D.C.Phillott ( ) الذي جمع بعض الحكايات عنه ونشرت في مجلة "جمعية الدراسات الآسيوية" في البنغال (كلكتا 1907 م) تحت عنوان "بعض القصص الشعبية من حضرموت وبها (قصة يحيى عمر عازف القيثار) أي المقنبس( ) هكذا" وقد نقل ما رواه أحد الحضارم بقوله: " إن يحيى عمر كان في صنعاء ثم عزم على الذهاب على الهند فوصل إلى برودا Baroda حيث تزوج هناك ولم يمكث مع زوجته أكثر من خمسة عشر يوماً ثم طلقها وغادر تلك المنطقة إلى هندستان ومن هناك قصد إلى كلكتا ومنها إلى "مدراس" وبعد غياب دام ستة عشر عاماً عاد أدراجه إلى برودا وعاش هناك في الحي العربي " ويستطرد الحضرمي في حكايته حتى يأتي على ذكر زواج يحيى عمر بإحدى الفتيات هناك فيقول:" لقد كان من عادته ألاَّ ينام حتى يقضي وقتاً في العزف والغناء، وكثيراً ما يكرر اسمه (يحيى عمر) في قصائده الغنائية ومن هنا علمت الفتاة أن يحيى عمر ليس إلاَّ والدها فأخبرته بذلك فاصطحبها إلى بلاده حيث زوجها على أحد أفراد قبيلته " ويقال إن هذه القصة( ) حدثت بالفعل. بيد أن سرجنت يعتبر هذا المقال مغلوط جداً إذ إن النصوص لا يمكن الاعتماد على صحتها، كما أن الترجمة غالباً ما تكون خاطئة، إلاَّ أن المادة نفسها لا تخلو من القيمة والاطلاع على موضوع سابق لهذا الموضوع، انظر نفس المجلة (أي مجلة جمعية الدراسات الآسيوية) لعام 1906م( ).
    ويذكر سرجنت أنه توجد نسخة من ديوانه عند لندبرج والتي لا شك أنه قد اختار القصائد ونشرها لنا في كتابه من ذلك الديوان( ). ويشير د. محمد عبدالقادر بافقيه في كتابه "المستشرقون وآثار اليمن" إلى أن المستشرق السويدي الكونت كارلودي لندبرج في زيارته للمكلا تعرف على بعض رجالات البلاد من حكام وتجار وشعراء شعبيين ومنهم تعرف على فحول الشعراء الشعبيين في تلك المرحلة الحافلة بالتقلبات السياسية من أمثال المعلم عبد الحق وناصر باعطوة ويحيى عمر "أبو معجب"... إلخ( ). وإذا كان المعلم عبدالحق وباعطوة من شعراء تلك المرحلة (مطلع القرن العشرين) فأن يحيى عمر لا يمكن أن ينسب إلى شعراء تلك المرحلة المتأخرة كما قد يتبادر من ذلك، لأنه قد سبق ذلك العهد بأكثر من قرن ونصف على وجه التقريب. وربما أن المقصود هو أن أشعاره قد كانت متداولة في تلك المرحلة ضمن نتاج الشعراء الفحول حينها، كما لا زالت أشعاره وألحانه تنتشر وتتداول بكثرة إلى اليوم، ليس فقط على مستوى اليمن بل وفي الجزيرة والخليج.
    يذكر المؤرخ محمد عبدالقادر بامطرف أنه اطلع على (ديوان شعر) ليحيى عمر مخطوط مع المطرب العدني إبراهيم محمد الماس( ). وهذا ما يؤكده أيضاً الفنان محمد صالح الحضرمي الذي ذكر أن ديوان يحيى عمر كان مخطوطاً بقلم جرع وموجوداً بحوزة المطرب اليمني الراحل إبراهيم محمد الماس إلاَّ أنه بيع بالمزاد العلني( ). وإذا صح أن هذه المخطوطة قد بيعت بالمزاد، فيا ترى على من رست؟ وما هو مصيرها بعد ذلك؟ وهل يمكن أن تكشف لنا الأيام عن مضمونها كما عن غيرها من خفايا هذه الشخصية الفذة وتراثه المجهول الذي لم يُعرف منه إلاّ القليل.
    كما يذكر الباحث والمؤرخ حسن صالح شهاب في بحث له بعنوان " الغزل في الأغنية اليمنية " أن المطرب عمر سعيد مهدي باذيبان كان يحتفظ بمخطوطة فنية تجمع أشعار يحيى عمر وكذلك الفنان ابن هرهرة ولكنها انتقلت منه في عام1924م إلى مكتبة الفاتيكان بروما. إلاّ أن د. نزار غانم يشير إلى أنه وقف شخصياً على هذه المخطوطة من الأمبروزيانا فوجدها فقيرة حقاً وأنها لا تحتوي على أشعار ليحيى عمر فقط وإنما كوكتيلاً من الأغاني الصنعانية( ). ولا أدري هل قام د. نزار، وهو الباحث المهتم بالشأن الفني والأدبي، بتصوير أو نسخ تلك الأشعار، على شحتها كما يقول أم اكتفى بالاطلاع عليها فقط؟!
    والعمل الجريء الذي يستحق الذكر والثناء هو ذلك الذي أقدمت عليه كوكبة من الأدباء والشعراء الشعبيين والمهتمين بتراث يحيى عمر اليافعي ممن ووضعوا اللبنة الأساسية للمنتدى الثقافي الذي يحمل اسمه وأصدروا في العام 1993م، الجزء الأول من (غنائيات يحيى عمر) ضم مجموعة من قصائده المختلفة المغناة وغير المغناة التي جمعوها من مصادر شتى وبجهد جهيد وأجلوا الغموض حول نسبه ومسقط رأسه، وصححوا بعض المعلومات حسب اجتهادهم، ورغم بعض النواقص والأخطاء وانعدام الهوامش، إلاّ أن ما يشفع لهم أنهم ليسوا بمؤرخين أو متخصصين وإنما معجبين ومتحمسين لتراث وفن يحيى عمر، ويكفيهم فخراً أنهم حرثوا أرضاً بكراً واقتحموا صعاباً جمة ليقدموا ذلك العمل الذي أعاد الاعتبار لشخصية عظيمة كاد أن يلفها الغموض.
    ولا ننسى الإشارة إلى تلك الرحلة الممتعة التي اصطحبنا فيها الباحث والكاتب بدر بن عقيل مع أشعار يحيى عمر اليافعي، وكذلك ما صاغه يراع الأديب اللبيب فضل النقيب في سلسلة مقالات بعنوان (يحيى عمر قال) وكذا كتاب الزميل د.سعودي علي عبيد "تنوع مضامين القصيدة عند الشاعر الغنائي يحيى عمر أبي معجب اليافعي" وغير ذلك من الكتابات المتناثرة هنا وهناك.
    أما المخطوطات التي تضمنت أشعاراً ليحيى عمر فلعل من أهمها مخطوطة الفقيه علي بن حسين عبدالرب الرُّشيدي التي تعود للعام 1362هـ وكان صحابها يدون فيها ما يحفظه أو ما يروق له من أشعار غزلية أو صوفية أو قبلية وضمن ذلك غزليات يحيى عمر، الذي يعد فارساً لا يضاهى في هذا الميدان، وقد استأثرت غزلياته بجزء كبير من محتويات المخطوطة، إلى جانب قصائد لشعراء آخرين أمثال: خو علوي وبن زامل وبن حوتب الكلدي وراجح بن هيثم بن سبعة وحسين عبيد الحداد..الخ.
    ولا بد لي أن أشير إلى تلك الأوراق الهامة من مخطوطة تعود إلى عام 1362هـ بعنوان " تسلية القلوب وتفريج الكروب " بخط المعلم رجب بن حدجه الملقب "بريكان" وهو الذي قام بجمع مادتها , وهي كلها قصائد عامية لشعراء كلهم من حضرموت إلاَّ الشاعر يحيى عمر وعبدالهادي السودي , وقد أمدني بها مشكوراً الصديق الباحث في التراث الشعبي الأستاذ عبدالله صالح حداد, وحملت الجديد من أشعار يحيى عمر الذي نُشر لأول مرة بما في ذلك تكملة لبعض ما نُشر ناقصاً ونصوص لبعض قصائد تختلف بعض الشيء مع ما نشر, وهو ما استوعبته في الطبعة السابقة (الثانية). الجدير بالملاحظة أن مخطوطة " بريكان" ومخطوطة "الرُشيدي" تعودان زمنياً إلى نفس العام الهجري 1362.
    أما أقدم مخطوطة تاريخية حصلنا عليها مؤخرا فهي مخطوطة (العزعزي السلماني) إذ يعود تاريخها إلى سنة 1256هجرية, وتكون بذلك هي الأقدم والأقرب إلى عصر يحيى عمر مقارنة بالمخطوطات السابقة, وقد استوعبنا ما ورد فيها من أشعار يحيى عمر في هذه الطبعة كما أسلفنا القول.
    وفي التسجيلات الصوتية القديمة
    لم تبدأ التسجيلات الصوتية لتراثنا الفني، على ما وقفنا عليه، إلاّ مع مطلع القرن العشرين بواسطة اسطوانات قديمة من النوع الحجري مصنوعة من الشمع ، كان لها الفضل الكبير في حفظ نفائس من تراثنا الشعري والفني. كتب د. نزار غانم يقول: "ثبت مؤخراً أن أقدم تسجيلات للأصوات اليمانية قام بها الهولنديون عبر ممثليهم في جدة مطلع هذا القرن (العشرين) على يد فونغراف أديسون بالأسطوانات الشمعية العتيقة.. وهذه الأصوات محفوظة بالمعهد الشرقي في لندن وإن كان الأمريكيون قد استنسخوا منها نسخاً مؤخراً. وقد مكنتني الصدف من أن استمع للنسخة الأمريكية من هذه الأصوات اليمنية، فلم أجد تقارباً بينها وبين أي من ألوان التراث اليمني المختلفة سوى بعض القصائد التي تفتتح بذكر الشاعر والفنان يحيى عمر"( )
    أما أول من سجل ليحيى عمر فهو الفنان المغمور سيد محمد اليمني وذلك على آلة القنبوس في نفس مبنى الممثلية الهولندية في جدة بالحجاز في مطلع القرن العشرين وبنفس الأسطوانات الشمعية على فونغراف أديسون. وفي العام 1928م قامت شركة أديون بالتسجيلات التالية( ):
    يحيى عمر قال خلي الحال مجهولا - غناء المرحوم إبراهيم الماس
    يحيى عمر قال ما شان المليح - غناء المرحوم عمر محفوظ غابه
    يا الله يا من على العرش استويت - غناء المرحوم عمر غابه
    يا الله سالك بمن أركانه أربع - غناء المرحوم عمر غابه
    كما سجَّل ليحيى عمر الفنان المرحوم محمد زويد والفنان المرحوم ضاحي بن وليد. وقد جاء في مجلة "البحرين الثقافية"( ) ما يلي: طلبنا من المرحوم زويد في أحد اللقاءات نموذجاً لصوت يافعي فغنى لنا (اليافعي قال كيف الحال) وكان لحن الصوت مشابهاً للحن "يحيى عمر قال قف يا زين" الذي سجله ضاحي عام 1929م واسماه يوسف دوخي صوت عربي.. ونفس هذا اللحن سمعناه في الأغنية المشهورة للمطربة الكويتية علياء حسين "الحمد لك يا عظيم الشأن".
    ومع بدء ازدهار عصر الأسطوانة في الخليج، فقد قام الفنان محمد بن فارس في الأعوام 1932 – 1938م بتسجيل عدد من الأسطوانات، حملت معظمها نصوص شعراء يمنيين، ومن بينهم يحيى عمر. من بينها نصوص أغنياته التالية: يالله يا رباه، يقول أبو معجب نهار الأحد، يحيى عمر قال ما شان المليح. وفي مطلع الأربعينات، سجل الفنان محمد بن فارس عدداً من الأغاني لإذاعة البحرين، مع بدء إرسالها الإذاعي. ثم أخذت كلمات وألحان يحيى عمر تتوالى بأصوات العديد من فناني دول الجزيرة والخليج العربي.
    أما في اليمن، وتحديداً في عدن، فلم تبدأ شركات الأسطوانات نشاطاتها في تسجيل الأغاني السائدة في ذلك الوقت كالصنعانية واليافعية واللحجية وغيرها إلاّ في الحرب العالمية الثانية، وأول هذه الشركات كانت شركة (بارلفون) وهي شركة ألمانية، ثم تلتها شركة (أوديون) وشركة (جعفر فون) وشركة (التاج العدني) وكل هذه الشركات كانت لها فروع في بعض البلدان العربية كالكويت والبحرين وغيرها( ). وقد سجلت شركة (التاج العدني) ليحيى عمر في العام 1939م أغنية "يقول يحيى عمر من كم هذا العسل نشتري قفله" غناء المرحوم أحمد عوض الجراش.
    والباحث في تاريخ الأغنية اليمنية يلحظ أن تجار شركات الأسطوانات كانوا يتعاملون مع الفن كمصدر لتحقيق الأرباح من خلال تسويق هذه الأسطوانات وتصديرها إلى الخارج. ويؤكد الفنان خليل محمد خليل أن بعض أصحاب شركات الأسطوانات جنى أموالاً طائلة من وراء ذلك وأصبح في عداد المليونيرات في زمانه، وبدورهم كان الفنانون يقومون باستغفال أصحاب شركات الأسطوانات، مثلاَ، بغناء قصيدة (الهاشمي قال) لشركة معينة، ثم يقوم نفس الفنان بغناء نفس اللحن بكلمات أخرى مثل (قال ابن جعدان) وتسجيله لشركة اسطوانات أخرى ويقوم نفس الفنان بتسجيل اللحن بكلمات أخرى مثل (يحيى عمر قال) للمرة الثالثة وهكذا..( ).
    ولهذا السبب المتمثل بزج التراث في مجال التجارة والإثراء غير المشروع، فضلاً عن انعدام الأعمال الشعرية والفنية المطبوعة وغياب الرقابة والحماية للحقوق الأدبية، ناهيك عن المادية، كل ذلك، في تقديري، عرّض الكثير من الأغاني بكلماتها وألحانها للتحريف والتحوير والحذف والإضافة والتعديل والتغيير..إلخ ، وفي مقدمة ذلك ألحان وأشعار الفنان يحيى عمر اليافعي "أبو معجب" التي كانت الأكثر انتشاراً والأكثر إقبالاً عليها من قبل الفنانين لشهرتها الذائعة داخل الوطن وخارجة.
    اللَّبْس في أشعاره
    تعرضت أشعار يحيى عمر على مدى ثلاثة قرون للبس والخلط الذي ربما لحق بها أكثر من غيرها. ناهيك أن ثمة العديد من أشعاره قد طواها الزمن أو توارت خلف البحار أو بطون الجبال وسفوحها وأوديتها، أولا زالت تقبع في أماكن معينة أو في بطون المخطوطات أو الأسطوانات أو مصادر أخرى منسية أو مجهولة لم تصل إلينا بعد. وأجزم أن معظم ما بين أيدينا من أشعاره لم تصل إلينا كما كانت بصورتها الأصلية التي أبدعتها قريحة صاحبها، أو حتى كما سجلها أصدقاؤه الذين كانوا يلازمونه باستمرار ويدونون كل أشعاره، لأن طرق وصولها إلينا بصورتها التي هي عليها الآن قد كانت متعددة ومتعرجة. والذاكرة الشعبية كمصدر رئيسي لحفظ وتناقل أشعاره، لا يمكن الركون إليها، لأنها عرضة للنسيان ومن شوائبها أن كل ناقل يساهم في بعض الإضافات أو التعديلات بشكل إرادي أو عفوي، وقد تخونه الذاكرة فيسقط بعض الأبيات أو المقاطع سهواً أو يخلط بينها، والدليل على ذلك تعدد روايات أشعاره والاختلاف البيّن والواضح في صيغها ومفرداتها وتقديم وتأخير في بعض الأبيات هنا، أو نسيان وإضافة هناك. وبرغم ورود بعض المعلومات في أكثر من مصدر عن مخطوطات أو دواوين ليحيى عمر فإن أحداً لم يقطع بعودتها إلى يحيى عمر نفسه أو حتى إلى عصره أو العصر القريب منه، وما يزيد في غموضها أن مصيرها لا زال مجهولاً، باستثناء بعض المخطوطات المتناثرة التي عثرنا عليها في أرشيف بعض الأسر اليافعية، وهي في غالبيتها تعود إلى المهاجرين اليافعيين في الهند في النصف الأول من القرن الماضي، ولكن حتى مثل هذه المخطوطة، على أهميتها في حفظ مثل هذه الأغاني، فأنها لا تخلو من أخطاء أو زيادة أو نقص كغيرها من المصادر المكتوبة أو الشفهية، بل نجد أنها هي الأخرى قد نسبت أشعاراً وردت فيها إلى يحيى عمر بينما هي في الأصل لشعراء آخرين، وهو ما يتطلب التحري والتدقيق في التعامل في مثل هذه الحالات.
    إن شهرة أغاني وألحان يحيى عمر الواسعة في الجزيرة والخليج وغيرها، تنبع من كونه كان شاعراً غزلياً مجيدا وعازفاً وملحناً ومغنياً في آن واحد "وكان من عادته ألاّ ينام حتى يقضي وقتاً في العزف والغناء"( )، ومن هنا كتب لأعماله الخلود، لأن استمرار ترديد تلك الأغاني والألحان، وتداولها على كل لسان، قد جعلها في منأى عن الإهمال والنسيان، بل وحاضرة دائماً في شفاه ووجدان محبيه على تعاقب الأجيال ومر الزمان. وهكذا فإن شعره الملحون كان يجد استحساناً ولا يزال كذلك من لدن المطربين والفنانين في كثير من الأقطار. وبقدر ما حفظ لنا اللحن والغناء الكثير من أشعاره بقدر ما جنى أيضاً بعض الشيء، بدرجة تزيد أو تقل، على تلك الأشعار التي نسمعها اليوم بأصوات فنانين متعددين بصيغ متباينة أو مختلفة في كثير أو قليل من أبياتها أو مفرداتها وفقاً والمصدر الذي أخذ منه هذا الفنان أو ذاك أو بما يضيف عليها هو من تعديل أو تحوير أو تحريف في الألفاظ والأبيات وفقا لهواه أو بقصد تطويعها وتقريبها للهجته المحلية، ومع كل ذلك فهذا أهون من أن تترك مثل هذه الأعمال فريسة للإهمال والنسيان. ولأن قائمة اللبس والخلط والتحريف الذي تعرضت له أشعار يحيى عمر كبيرة وطويلة، ولا يتسع المجال لسردها كاملة، فلا ضير أن نأتي بأمثلة منها تؤكد حقيقة ما نذهب إليه. فمن منا لا يعرف أغنية "أبي معجب" الشهيرة (يحيى عمر قال يا طرفي لمه تسهر) والتي يغنيها الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، هذه الأغنية تعرضت للتحريف من قبل الفنان السعودي الراحل محمد علي سندي، بل ونسبها إلى ابن جعدان، حيث جاء فيها كما غناها:
    يقول ابن جعدان يا طرفي لما تسهر
    اترك هوى السمر جماله واعشق الاصفر
    يا جوز يا لوز حالي يا زبيب أخضر
    لو كان بيدي ويفتح طاقة المنبر
    وكلما نظرته واعجبك شله
    وساير البيض والخضر كذا خله
    يا رازقي يا مناصف طاب في نخله
    لا تصبح الناس من الحسن في شغله

    ويلاحظ هنا بوضوح مدى التغيير والتحريف الذي أصاب كلمات الأغنية في مقتل خاصة لمن يقارنها مع أغنية المرشدي الأقرب إلى الأصل، ومع ذلك فقد اشتهر بها ذلك الفنان محرفة في بلده.
    ومن الأغنيات التي تعرضت كلماتها للتحريف كثيراً من قبل أكثر من فنان ومطرب أغنية يحيى عمر التي يقول فيها:
    يا مركب الهند أبو دقلين – يا ريتني كنت ربانك
    .. وللتوضيح هنا:
    إن هذا المقطع الشعري هو ليحيى عمر اليافعي الشاعر والفنان والبحار كثير الأسفار، وليس "صوت بحري لا يعرف قائله الحقيقي" كما يذهب الأستاذ بدر بن عقيل، بل إن العكس هو الصحيح، وإن شهرة الأغنية التي ظل البحارة وعمال السفن يرددونها منذ عهد يحيى عمر قبل ثلاثة قرون وإلى اليوم في عدد من موانئ البحر الأحمر والخليج العربي وكذلك الموانئ العربية على البحر الأبيض المتوسط ، قد جعلت هذا البيت لشهرته في مطلع تلك الأغنية ذائعة الصيت يدخل في عداد الفلكلور الشعبي لكثير من البلدان العربية. فقد "حظي يحيى عمر في حياته وفي ما تلاها بأوسع آلة إعلامية نقلت أشعاره وألحانه عبر البحار فقد كان البحارة في ذلك الزمن هم المبشرين لكل جديد وهم الذين يلقحون الحضارات بأفضل ما في كل واحدة منها"( ) ، ولذلك ليس غريباً أن تؤديه فرقة رضا المصرية للفنون الشعبية بلحن مصري راقص، مثلما يمكن أن تؤديه فرقة الإنشاد في بلا دنا بلحن يمني راقص أيضاً وستظل هذه الأغنية حية تبحر في الآفاق ما بقي البحر والبحارة كما أراد لها صاحبها.
    أما التحريف الذي مسها كثيراً فليس بخاف على أحد من ذواقة تراث هذا الفنان العظيم، فلقد تغنى بهذه الأغنية الشهيرة عدد من الفنانين اليمنيين والعرب. ومع ذلك لم نسمعها بصيغة موحدة لدى هؤلاء أو حتى لدى بعض منهم على الأقل، بل على العكس نجد أن كلاً منهم يغنيها بصيغة تختلف كثيراً أو قليلاً عن الآخر، ربما لذات الأسباب التي سبق الإشارة إليها، فنجد كلماتها بصوت محمد عبده تختلف عما هي عند خليل محمد خليل أو كما وردت لدى محمد بن فارس وهكذا مع غيرهم ممن غنوا هذه الأغنية، حتى أصبح من الصعوبة بمكان معرفتها بصيغتها الأصلية كما وردت على لسان يحيى عمر وهو ما ينطبق أيضاً على كثير من قصائده. وبالمناسبة أشير إلى ما كتبه عبد الرحمن الناصر في عمود له نشرته صحيفة "الرياض" السعودية في عددها الصادر يوم 3/12/2007م في حديثه عن أغنية يحيى عمر "يامركب الهند"( ) التي اعتبرها من الأعمال التراثية الجميلة وأشار إلى أن محمد عبده عندما اختار هذه الأغنية قد أضاف عليها عدة أبيات منها: لَكْتُب على دفتك سطرين.. اسم حبيبي وعنوانه, كمذهب للعمل مع تركيب كلمات الكوبليهات الأخرى بأسلوب آخر وجديد، وقد قدمها محمد عبده في مسلسل (أغاني في بحر الأماني) في العام (1969م) وأيضاً في حفلة (أضواء المدينة) في القاهرة. ونتفق معه أيضاً في أن المشوار الذي قطعته هذه الأغنية منذ أن كتبت كقصيدة يجعل منها شاهداً على مسيرة الغناء الشعبي الخليجي(وفي الجزيرة عموما) وتوثيقاً لمراحل تطوره، وما ثباتها واستمرار وجودها إلى اليوم إلا دليلاً على تفردها، فمن ضاحي بن الوليد إلى سالم الصوري إلى محمد عبده ومازالت تغنى وتقال - سواء أكانت قصيدة أم أغنية- في سائر الجزيرة والخليج العربي، وفي هذا أبلغ إثبات على أنها من المع الذهبيات التي كونت من واقعها حساً جميلا كلاسيكيا يظهر بين لحظة وأخرى.
    أشير إلى أنني فكرت أن أورد هنا مقارنات بين الروايات المختلفة لمثل هذه الأغنية وغيرها من غنائيات يحيى عمر كما في المصادر والمراجع الكتابية والصوتية والشفهية المتباينة، فوجدت أن ذلك غير ممكن، ليس لصعوبة ذلك مع ما هو متوفر بين يدي، بل لأن الحيز سيطول والقارئ سيتوه، ولأن الكثير من النصوص تختلف وتتباين كثيراً، وهذه المسألة تتطلب إفراد كتاب مستقل للإلمام بكافة تشعباتها، لذلك أحجمت عن ذلك، واكتفيت بالتعرض لنماذج كأمثلة فقط، ومن أراد الاستزادة عليه الرجوع مثلاً إلى كتاب "محمد بن فارس أشهر من غنى الصوت في الخليج"( ) ليقارن أغاني يحيى عمر التي احتلت حيزاً كبيراً فيه مع نظيراتها المنشورة في "غنائيات يحيى عمر" أو العودة لسهولة الأمر إلى كتاب بدر بن عقيل "إبحار في أشعار يحيى عمر اليافعي" الذي أورد مثل هذه المقارنات في النماذج التي اختارها من الإصدارين.
    ومن الأمثلة التي ينبغي الإشارة إليها في هذا السياق، أغنية يحيى عمر الشهيرة التي يقول مطلعها:
    يحيى عمر قال بالله يا هنود
    هل هي من الهند والا من سنود
    قولوا لنا بنت من ذي الهندية
    تفهم رطين العرب بالهندية

    فهذا هو الفنان خليل محمد خليل يتذكر أن البحارة والتجار كانوا يلتقون في ميناء عدن والمكلا وتأتي معهم أغانيهم وتتلاقى، ومن هذه الأغاني الشعبية ما هو وافد من أقاليم اليمن ومناطقها ومنها هذه الأغنية اليافعية( ). كما تورد كلمات وألحان هذه الأغنية ليحيى عمر في كتاب "جذور الأغنية اليمنية في أعماق الخليج"( ) كنموذج من الغناء اليافعي المتداول في منطقة الخليج ولكن بصيغة مختلفة مع اختلال في قافية صدر وعجز وموسيقى البيت الثاني منها:
    يحيى عمر قال امانه ياهنود
    لاهي من الهند ولاهي من السند
    قولوا لنا من ذي بنت الهندية
    قالوا تربت في عاليات القصور

    ومع شهرة أغنية يحيى عمر تلك، فإنها قد وردت في كتاب مبارك العماري عن "محمد بن فارس"( ) منسوبة لـ(ابن جعدان) مع غيرها من غنائيات أخرى هي أصلاً ليحيى عمر، ربما لأنه دوّن ما سمعه من أسطوانات مغناة دون أن يُعنى بالتحقق من صحة ذلك. وكما نعلم لم يثبت أو يتحقق من وجود شخصية باسم (ابن جعدان) في الشعر والغناء اليمني، والأرجح أن ابن جعدان هو ذاته يحيى عمر اليافعي كما يرى المؤرخ حسن صالح شهاب، أو أن هذا لقب لفنان تغنى بتلك الأغنية وغيرها فذكر لقبه بدلاً من اسم يحيى عمر، دون نية سيئة، ثم سُجلت في أسطوانات بصوته فالتقطها من التقط منسوبة خطأ لغير يحيى عمر. وقد علمنا كما سلف على لسان الفنان خليل محمد خليل بحدوث مثل هذا الخلط من قبل الفنانين في التعامل مع شركات أسطوانات التسجيل جرياً من الجانبين وراء الربح دون التحقق من صحة صاحب اللحن أو الكلمات ومثل ذلك حدث لكلمات وألحان يحيى عمر ربما أكثر مما مع غيره لشهرة أغانية واستحسان الناس لها.
    ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن الخلط واللبس لم يكن حكراً على غنائيات يحيى عمر التي مضى عليها ثلاثة قرون مع انعدام أي تدوين لها والركون فقط إلى ذاكرة الحفظة والمعجبين وهو أمر يمكن أن يكون مبرراً. بل إن مثل هذا الخلط واللبس حدث ويحدث مع أعمال شعراء في حياتهم وأمام سمعهم وبصرهم. فعلى سبيل المثال حدث في العام 1966م أن صدرت الطبعة الأولى من ديوان "دموع العشاق" للشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار ونسبت له قصائد هي لغيره، كقصيدة "بشكي لقاضي الهوى" و"من آمنك لا تخونه" و"من مننا معصوم" وهذه الثلاث للشاعر أحمد سالم البيض( ).
    وقد يحصل العكس كأن ينسب البعض أشعاراً ليحيى عمر هي في الحقيقة لغيره من الشعراء، كما في بعض المخطوطات (مخطوطة الرشيدي على سبيل المثال)، أو ذلك الخطأ الذي ورد في (غنائيات يحيى عمر) بإيراد قصيدة "تعبتني يا أمير الجانيات" محرفة ومنسوبة ليحيى عمر فيما هي لشاعر معاصر آخر, وقد تنبهت لذلك وألغيت هذه القصيدة من هذا الديوان, وإنصافاً للحقيقة نشرتها ضمن كتابي "أعلام الشعر الشعبي في يافع" بصيغتها الأصلية باسم ناظمها الشاعر يحيى أحمد البرق الذي يبدو تأثره واضحاً بأسلوب يحيى عمر, وأوضحت ما شابها من اللبس ومما جاء في قصيدة البرق:
    يقول أبو فضل جرَّيت النهود
    حنَّات مترادفه من كل صَات( )

    نومي هرب صد وأعياني قهود
    وأمسيت سامر على سُكَّر وقات

    سالي وسهران وا جرّ النهود
    أسرتني وا أمير الجانيات

    وا من لك أسيان معدوده عدود
    مثل القلس عالجنوب الحاليات

    وأعيان حمراء حُمَهْ وأسبال سود
    أذهلتني بالعيون الراويات

    كيف الخبر كيف وا فهد الفهود
    محبتك بالكبد نابت نبات

    وان ما تصدق فخُذ خمسه عهود
    على حروف السور والذاريات

    والله لا قيدك سبعه قيود
    واطرح عليك الحَرَسْ عسكر و(جَاتْ)

    وبالمثل ألغيت قصيدة (يحيى عمر قال إني هائم) من هذا الديوان لأنها لشاعر آخر هو عبدالرب ناصر العفيفي, وهو ما صححته أيضا في كتابي "أعلام الشعر الشعبي في يافع"( ).
    كما حدث لبس مماثل من قبل الصديق الصحفي أحمد يسلم صالح في مقالته "مقتطفات من أشعار وأغاني يحيى عمر"( ) حيث نسب ليحيى عمر الأغنية الشهيرة لفهد بلان "يا بنات المكلا"، مع أن أحداً قبله لم يقل بذلك، كما أنه نسب قصيدة أخرى له بينما هي للشاعر الشعبي عبدالقادر بن شيبان، يقول فيها:
    بعض النساء لول جوهرغاليات اثمانهن
    وبعضهن نيران حمرا شاعله نيرانهن
    وبعضهن مصباح في المنزل وفي روشاهن
    الله يجمعنا بخيرات النساء واحسانهن

    وهذا الخطأ الذي وقع به غير مقصود منه، نتج كما هو واضح من القراءة غير المتأنية والمرور السريع في الكتاب الذي أخذ عنه( ), حيث وردت فيه هذه الأبيات ضمن استعراض الكاتب لقصائد يحيى عمر مع نماذج لشعراء آخرين كأمثلة لما ورد في أوصاف المرأة.
    ولنفس السبب طال اللبس أيضاً أسم أحد الذين كتبوا عن يحيى عمر. فقد ورد في بعض المؤلفات( ) اسم عبدالله عوض يعقوب وكأنه من كتب موضوعاً بعنوان "يحيى عمر المجهول". وبالعودة إلى مجلة "الفنون" [العدد(11) نوفمبر 1982م ص74] الذي أخذ عنه المؤلف نجد أن كاتب تلك المساهمة هو سعيد بن سعيد صالح، وهو فنان شعبي يافعي ومن المهتمين بالتراث الشعبي، وقد أشار في مساهمته تلك إلى شهرة الفنان والشاعر يحيى عمر وأشعاره الكثيرة التي لم تطبع حتى ذلك الحين في ديوان وطالب الجهات المعنية بتجميع تراثه وإصداره في ديوان. أما عبدالله عوض يعقوب فكانت مساهمته تحت عنوان "البحث عن المحبة" وجاءت مباشرة بعد موضوع "يحيى عمر المجهول" وللتسرع في القراءة والنقل حدث اللبس فيه ونُسب إلى غير كاتبه الحقيقي، وهو ما نصححه هنا أمانة للتاريخ.
    ختــامـا
    نستطيع القول إن يحيى عمر اليافعي قد ترك أغنيات مميزة، تمثل مدرسة فريدة في فن الغناء واللحن، كتب لها الخلود وأرغمت الأجيال أن تترنم بها، حتى يمكن لمن يسمع هذه الأغنيات أن يقول على الفور أنها ليحيى عمر اليافعي، ويرجع ذلك إلى أن روح الفنان كانت طاغية على موهبته الشعرية فجاءت أغانيه متناغمة مع ألحانه العذبة، وتتميز بالرقة والسلاسة والوضوح، فكثر الغناء بها إلى اليوم، ولذلك فأن أشعاره تعتبر وبحق "بمثابة مستودع للذاكرة الشعبية للجزيرة والخليج بصفة عامة ولليمن على وجه الخصوص وذلك فيما يتصل بمقاييس الجمال الإنساني بالنسبة لعامة الناس الذين يأكلون من خشاش الأرض ويسعون في منكبها كدحاً"( ).
    ولاشك أن كثيراً من أشعاره لا تزال مجهولة، وربما يكون بعضها محفوظ ضمن الوثائق الأسرية أوفي مخطوطات تقبع هنا وهناك في أماكن مجهولة أو لدى بعض المهتمين، والزمن كفيل بالكشف عنها وإبرازها، والأمل أن يتفهم أمثال هؤلاء أن مثل هذه المخطوطات أو الاسطوانات ينبغي أن ترى النور, لأن نتاج يحيى عمر وإبداعه يدخل في عداد التراث، وهو ملك للجميع، ويعول عليها في الكشف عما خفي من أشعار وأسرار حياة هذا الفنان العظيم وهي دعوة نرجو أن تلقى صداها لدى من بحوزتهم أي جديد لم ينشر بعد، أو تصحيح لما نشر.
    وأختتم ببيتين وردا في مجلة "الفنون" (فبراير/ مارس 1982م) يقول فيهما:
    يحيى عمر قال يوم النور
    ها ناولوني حجر ياجور
    صادفت شمعة بمخزاني
    من شان يبني بها الباني

    ترى، هل سنصادف في يومٍ ما تكملة هذه القصيدة البديعة، والحصول على غيرها من قصائد يحيى عمر الناقصة والمحرفة والمجهولة حتى يكتمل بنيان ديوانه المرتجى وسيرة حياته؟!.

    ملاحظة: للأسف الأشعار لم تظهر منسقة.. وينبغي التنبه لذلك عند القراءة

انشر هذه الصفحة